في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة تتعالى الأصوات من كل حدب وصوب بمختلف أنواع الحلول, بعضها واقعي وبعضها خيالي, بعضها يسير بنا في الاتجاه الصحيح للخروج من الأزمة وبعضها الآخر قد يأخذنا إلى كارثة أو كوارث. لكن ما قد يستوقفك تعجباً أننا لم نسمع من يتحدث عن المفتاح الوحيد الذي لن يختلف اثنان على أنه واحد من المفاتيح الرئيسية للحل, إنه التراحم. مع كل قرض يصر صاحبه على تحصيله أياً كان الثمن قد تدفع منشأة الثمن بإشهار إفلاسها ويفقد المزيد من الأفراد مصادر دخلهم ويضاف عبء جديد من البطالة إلى سوق العمل في الوقت الذي تضعف فيه القوة الشرائية للمجتمع ككل بمقدار ما فقد هؤلاء من مصادر دخلهم. فيزداد الركود وتقل السيولة المتاحة في السوق فتعجز مجدداً مزيد من المنشآت وكذلك الأفراد عن سداد ما عليهم من مستحقات فيشهرون إفلاسهم وهكذا دواليك حتى نصل إلى حالة الركود التام, ثم تتعالى الصيحات بعدها طلباً للاستثمارات الأجنبية والقروض فقط لتكون هناك سيولة مالية في السوق لتكسر حالة الركود وليس لإصلاح المنظومة الاقتصادية فعلياً، ومع كل جنيه يصر صاحبه على ادخاره بدلاً من إنفاقه خوفاً عليه من المجهول ينقص المعروض من السيولة في السوق أيضاً.. ومع كل جنيه يفيض عن حاجة صاحبه فيؤثر صاحبه اكتنازه لنفسه بدلاً من أن يساعد به آخرين يزداد أثر الركود وانعدام السيولة.
لا تقل لي هذا الطبيعي فرأس المال جبان، عفواً ولكن هذه أكذوبة يبرر بها كل أناني لنفسه ما شاء أن يبرر، إن رأس المال الجبان هو الذي يكون بيد رجل جبان صاحب قلب شحيح أعمته الأثرة والأنانية حتى ما عاد يرى إلا مصلحة نفسه ولا ريب أنه إن كانت هذه الخصلة ملازمة لبعض البشر على مر التاريخ فإننا ورثنا ترسخها في النفوس عن حضارة العام سام من ضمن ما ورثناه من مخلفاتها الفكرية, ورثنا تلك الأنانية والمادية منمقة ومزينة باسماء براقة كالسوق الحر والرأسمالية.
دعنا من الخوض السقيم في النظم الاقتصادية ومهاجمة هذه والدفاع عن تلك وإلى آخر ذاك الجدل العقيم فتلك قضية أخرى, ولكن ما يهمني هنا هو إقرار أننا ورثنا عرضاً متلازماً مع الفكر الرأسمالي وهو الأنانية وغياب التراحم وأننا بحاجة لأن ندرك حجم الأثر الذي يتركه هذا العرض ونسعى لتلافيه ومعالجته في النفوس من باب إدراك الواقع وحل المشكلة, وهذا العرض هو السبب الرئيسي في الأزمة الاقتصادية بعد الثورة, فنحن لم نصب بكارثة دمرت مصادر الدخل أو الموارد الطبيعية أو وسائل الإنتاج أو البنية التحتية, ولكننا فقط أصبنا بالذعر المدفوع بالحرص والبخل والشح.
بالتأكيد هناك عوامل أخرى مساعدة منها انفجار المطالب الفئوية وتوقف عجلة الإنتاج نتيجة لها وهروب أموال منهوبة أو استثمارات أجنبية لدى أصحابها نفس الداء فهم يستثمرون في بلادنا ويستغلون خيراتها ليثروا على حسابها ثم حين الجد يهربون بأموالهم دون أدنى قدر من المسؤولية حتى الأخلاقية تجاه مجتمع أو بلد نمت فيه أموالهم حتى أتخمت بنوك بلادهم والعيب ليس فيهم بقدر ما هو فينا نحن الذين ما نبرح نمارس هذه الشحاذة المقنعة لأموالهم بدلاً من أن نطور منظومة الإنتاج الوطنية كما يفعل أي مجتمع محترم تتوافر له إمكانيات وموارد كتلك التي بين أيدينا.
ولكن كل تلك العوامل عارضة نستطيع تجاوزها في فترة زمنية قصيرة وتحدث في أي مكان بعد أي ثورة, ولكن المعضلة الرئيسية المتمثلة في ذلك الشح المزمن داخل النفوس والخوف على المال والخوف من المستقبل هي التي تشكل عقبة حقيقية بيننا وبين العبور من عنق الزجاجة الذي نحن فيه وكأننا فقدنا كل إيمان بداخلنا بالله وأقداره وبتسييره لأرزاق العباد وفقدنا الإيمان بأنفسنا وقدرتنا على النهوض حين نتعثر فصرنا نخشى المشي خوفاً من السقوط. اننا بحاجة إلى حركة اجتماعية كاملة يقودها من بيدهم الأمر من رموز الدولة والمجتمع لإعادة جدولة ديون المتعثرين ودفع الناس ليصبر بعضهم على بعض. إلى أن يتكامل المجتمع كله ونضع أيدينا في أيدي بعضنا لنعبرالأزمة سوياً.
إن من الصعب الآن أن تقنع الناس ببساطة أن لا يخافوا على أموالهم ولكن السهل وهو أضعف الإيمان أن ندعوهم للتراحم.. فمن السهل أن يتكافل الجميع للعبور بأقل الخسائر الممكنة بشرط أن يتخلى كل منا عن هذه الأنانية وأن يفكر في الآخرين كما يفكر في نفسه. وأن نسعى دوماً في كل مشكلة لأن نجد البديل الثالث الذي يحقق مصلحة الطرفين سوياً. ولا أقول فقط الحل الوسط لأن الحلول الوسط عادة ما تجبر كلا الطرفين على تحمل خسارة ما. وإن كان صحيحاً أن هناك مواقفا لا يمكن تجنب مثل هذه الحلول الوسط فيها فإني أزعم أن معظم المواقف يمكن أن نجد فيها ذلك الحل الإبداعي الثالث كما يسمية ستيفن كوفي الذي يحقق مصلحة الطرفين معاً ولكننا نجده فقط حين نقرر العثور عليه, ولن نقرر حتى نرغب, ولن نرغب حتى نطهر قلوبنا من ذلك الداء ويحل محله بلسم الرحمة والرأفة.