في زيارتي لإحدى مستشفيات القطاع الخاص اليوم كنت أظنه يوماً عاديا روتينياً. أذهب للكشف بالعيادة الخارجية وأهرع لألحق بموعد عملي. إلا أنه يوما أثار في داخلي معنى الرحمة. نعم الرحمة وكل ما يتبعها من مشاعر ومعاني الرفق والحنان والحب والإيثار.
أثار انتباهي طفلا ربما هو في العاشرة من عمره يحمل أخته الصغيرة التي لم تتجاوز الثلاث سنوات. أثارني عطفه على أخته الصغيرة. وخفق قلبي لشعوري بحنان قلبه الصغير على أخته الصغيرة وأخذ خيالي يسرح كيف سيكون حصن أمان لها حين تكبر. يا له من إحساس رائع إحساس الحب الصادق حين لا تلوثه الماديات الصلدة أو أنانية قاسية.
جلست أنتظر طبيبي الذي جاء وخيالاتي تجول هنا وهناك كسفينة تتنسم ريح البحر عميق الأسرار. جاء أو ربما جاءت صورة أخرى من صور الرحمة. جاء في نفس الوقت الذي أتت فيه سيدة عجوز يتخطى عمرها السبعون. وبمجرد أن رآها ربت على ظهرها وكأنها أمه. لا أستطيع أن أصف الدفء الذي أحسست به. هو لم يربت على ظهري بحنان بل على تلك السيدة التي أثنى الزمان ظهرها. فكان فعله رسالة رحمة.... رسالة دفء واستشعرت هذا الدفء فخفق قلبي سعيدا وكأنني أنا من تلقيت هذا الدفء. شعور رائع أن تشعر أن الرفق كائن موجود.
ومرة أخرى في ظل تفكيري وتفكراتي تتوالى الأحداث حيث دخلت حالة يبدو عليها أنها نتيجة حادث -شيء عادي-... تلك الحالة بسيطة الحال -أيضا شيء عادي-.... ولو أن العادي أن تلجأ تلك الحالات البسيطة الحال إلى مستشفيات القطاع العام نظرا للحالة المادية المتواضعة. وهنا يأتي الشيء الغير عادي أن تكتشف أن تلك الحالة زارت أكثر من مستشفى عام وفي كل مرة يكون الرد عفوا المستشفى في حالة إضراب. الأطباء مضربون عن العمل. نحن لا نقبل إلا حالات النزيف الداخلي ولا تعمل إلا غرف العناية المركزة.
هنا يبدأ الذهول وتعاني من هول الصدمة وتشعر أن هناك شيء غير عادي. فأن يطلب الأطباء حقوقهم شيء عادي. أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة هو شيء عادي. أما أن يتركوا المرضى والذين لا يقلون آدمية عن هؤلاء الأطباء فهو شيء غير عادي. كيف يذهب المريض وحالته ليس بها نزيف داخلي -لكنه على كل حال مريض- كيف عليه أن ينتظر حتى تسوء حالته فيصبح بين الحياة والموت فيدخل العناية المركزة حتى يتم علاجه. أو حتى يموت فتُكتب شهادة وفاته.
أنا لا أستطيع أن أستوعب كيف يحتمل الطبيب أن يرى مريضا يتألم وهو يملك أن يكون سبباً في شفائه ويتركه يتألم أو يتركه حتى تسوء حالته وربما يموت. للأطباء حق المطالبة بحقوقهم ولكن بشرف وبرحمة أما أن تكون ضريبة عودة حقوقهم أرواح تُزهق أو أرواح مريضة تتألم تَخَلّوا عنها فذلك عين الدناءة. ولا أعتذر عن قسوة الكلمة فلو بيدي لسحبت شهادة كل طبيب تخلى عن مساعدة مريض هو في أمس الحاجة إليه. فالغاية أبدا لا تبرر الوسيلة. الغاية صحيحة ولا غبار عليها لكن أن تكون الوسيلة تعذيب أرواح فهي وسيلة ليست آدمية.
وذلك الطبيب الذي أكرمه الله بأسرة تصرف عليه وتُهيئ له الظروف التي جعلت منه طبيبا ألم يكن من الممكن أن يكون هو مكان ذلك المريض الذي لا يملك مالا لدخول مستشفى استثماري أو عيادة خاصة. تُرى ماذا كان سيكون إحساسه عندما يتركه الطبيب وسط آلامه لأن الطبيب يطالب بحقوقه بوسيلة انتقامية للأسف في النهاية تكون موجهة تجاه المرضى المحتاجين وليست تجاه النظام المخطئ.هي قضية أخلاق وشرف ورحمة.
ويتصادف في نفس اليوم... اليوم الذي يناقشني بأحداثه في فلسفة الرحمة.... حيث يحكي شخص ما عن أنه رأى رجل كسيح يجلس يبيع الليمون على الأرض وبجانبه عجلته الخاصة بالمعاقين... رجلا لم يلجأ للتسول وإنما أحب أن يكسب قوت يومه من عرقه وكده وإن كان معاقاً. وجاء ذلك الشخص الذي أحس أن من واجبه مساعدة ذلك المعاق ولو بالقليل فأعطاه طعام مُغلف أي أن لم يكن بقايا طعام. أتعرفون ماذا كان رد فعل ذلك الرجل المعاق. كان رده أن قال مُستغرباً "بس ده أكل جديد نضيف!!!!!".
أعتقد أن تلك الجملة كافية أن تُدمع أعيننا لما نابنا من قسوة القلوب وحب النفس وتبلد المشاعر حتى أصبح المحتاج يتعجب أن يُعامل بكرامة. أتعرفون ليس الغريب في هذا الموقف أن يُعامل المعاق على أنه إنسان بل أن يكون المُعطي هو الإنسان. فذلك المُعاق قد اتصف بمعاني الإنسانية بمعاني الشرف والجهاد في حياة طاحنة. أما من قصروا في حقه هم من لا يتصفون بالإنسانية حقاً. إن ذلك المعطي لا يعطي من فضله بل يعطي من فضل الله الذي أنعم الله به عليه. لقد انتهى يومي أو أوشك على الانتهاء وأنا أشعر أنني أخذت درساً مكثفاً في معنى الرحمة. أظن أننا مجتمع مشكلته في قلة الرحمة. هي موجودة لكنها بالقدر القليل الذي لا يسد رمق مجتمع يريد أن يكون آدمي.
فهل يا ترى قبل أن يطالب كل منا بحقه هل مارسنا معنى الرحمة؟
أستحضر الآية الكريمة التي تقول "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" وهذا هو بيت القصيد الذي أعتقد أننا وصلنا إليه فقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا فهل نرجع.هل نُعلي قيم الرحمة، قيم الإتقان، قيم الأمانة، قيم العمل فنرجع؟ هل نجعل تديُننا تدين حقيقي فنمارس تلك القيم.... هل نجعل تديننا تدين حقيقي لا تدين مظاهر كاذبة خادعة.
يقول رسولنا الكريم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فهل سيأتي الوقت الذي نمارس فيه تلك الأخلاق أم أننا نمارس تدين ظاهر خاوٍ خالٍ من معاني التدين الحق ونظن أننا بلغنا أعلى الدرجات.
هل سندرك الدرس قبل فوات الأوان أم أننا سنشارك في ظهور فساد يعم البر والبحر بما كسبت أيدينا ونذوق بعض الذي عملنا.
أعتقد أن كل منا يحتاج أن يجلس مع نفسه بعض الوقت كي يفكر كيف يستحق أن يُطلق عليه لقب "إنسان"
واقرأ أيضاً:
حسني مبارك بريء / بلادي جميلة / همسات بحر / عمار الشريعي.... لن نقول وداعاً