الطب النفسي عبر الثقافات Cross Cultural Psychiatry
يعنى الطب النفسي أكثر من غيره من الفروع الطبية بالخلفية الثقافية للمريض للوصول إلى التشخيص الدقيق للاضطراب العقلي والأهم من ذلك وصف العلاج الطبي أو النفسي.
كذلك يتميز الطب النفسي عن غيره بتقييمه للاحتياجات الناقصة لمستخدم الخدمات الطبية النفسية. هذه الاحتياجات الناقصة للفرد إن تمت تلبيتها أحياناً قد تنهي معاناة الفرد النفسية بدون الحاجة إلى علاج طبي أو كلامي. هناك احتياجات سكنية واجتماعية ومهنية وروحية تهم الطبيب النفسي أكثر من غيره من العاملين في القطاع الصحي.
من هذا المنطلق لابد للطبيب النفسي أن يكون على علم بالخلفية الثقافية للفرد. المراجع النفسي من وسط القاهرة غير المراجع من صعيد مصر، والمريضة الهندية غير الأوربية، والخليجي غير المغربي.
ولادة الثقافات والحضارات:
تكتسب المجموعة البشرية تعاليمها من جراء التفاعل بالبيئة وتعامل أفرادها بعضهم مع بعض. من جراء ذلك قد تظهر مفاهيم جديدة عند هذه المجموعة البشرية ناتجة من التعاليم التي ورثتها من قبل(4). بعد ذلك تتطور التعاليم إلى مفاهيم ومن ثم إلى مقترحات تعتمد على موقع تلك المجموعة البشرية جغرافياً، وتعمل على تحريك المجموعة من أجل البقاء والتنافس مع غيرها من المجموعات البشرية المحيطة بها.
إن عملية اكتساب التعاليم Percepts وتطورها إلى مفاهيم Concepts ومن ثم إلى مقترحات Propositions عملية حركية قابلة للتحوير اعتمادا على المكان والزمان، والأهم من ذلك نجاحها أو فشلها في سد الاحتياجات الناقصة للمجموعة البشرية التي لم يتم تلبيتها والتي بدورها حيوية لبقاء المجموعة.
مع مرور الوقت تتحول العملية الاجتماعية النفسية إلى عملية إنجاب معتقدات Beliefs والتي يمكن تعريفها بأنها مقترحات صادقة شرعية غير مزيفة لا نقاش فيها ضمن أفراد المجموعة. هذه المعتقدات بدورها تتحول إلى قيم Values يتمسك بها أفراد المجموعة ويتوارثها الجيل بعد الآخر، ويعملون على تصنيفها هرمياً على مقدار أهميتها وقوتها.
بعدها تتحول القيم والمعتقدات إلى وصفات Recipes يستعملها أفراد المجموعة إلى تنظيم جهودهم لإنجاز المهمات والواجبات التي على عاتقهم.
المعتقدات والقيم في حركة تفاعل مستمرة بالقوى الاجتماعية والاقتصادية في البيئة التي تتواجد فيها. ينتقل الفرد أحياناً من بيئة إلى أخرى، ولكنه يحمل معه ثقافته التي اكتسبها في البيئة الأصل. متى ما نجحت البيئة الجديدة في تلبية الاحتياجات الناقصة للفرد، تبدأ عملية ولادة تعاليم ومفاهيم ومعتقدات جديدة. متى ما فشلت المجتمعات في تلبية الاحتياجات الناقصة للفرد تراه يكون أكثر تمسكاً بالثقافة التي ورثها.
هناك أكثر من 150 تعريفاً للثقافة والحضارة(5)، ولكن جميعها تستند بصورة مباشرة أو غير مباشرة للقواعد أعلاه. ربما من أكثر التعاريف وضوحاً هو تعريف تايلر (Taylor (1871: "الوحدة الكاملة المركبة التي تشمل المعارف، المعتقدات، الفن، القانون، السلوك الأخلاقي، الأعراف وكل مقدرة وعادة يكتسبها الإنسان كعضو لهذه المجموعة".
بعد ذلك يمكن اختصار مفاهيم الثقافة إلى ما يلي:
1- الثقافة عامل ناتج من تفاعل الفرد مع البيئة. تشمل البيئة مجموعة الأفراد وتفاعلهم مع بعضهم البعض والتي بدورها متعلقة بالبيئة الجغرافية لهذه المجموعة.
2- يجب الحذر بعدم تصنيف الثقافة كسلوك بحت.
3- يمكن النظر إلى الثقافة على أنها مقاييس متفق عليها للسلوك والمذاهب في مجموعة الأفراد.
4- على ضوء ذلك يمكن أن نفهم بأن الثقافة أو الحضارة لمجموعة ما هي إلا مجموعة من الأحكام أو القواعد أو المقاييس، عندما يلجأ إليها أحد أـفراد المجموعة تنتج سلوكا مقبولا ومعترفا به من قبل كافة أفراد المجموعة التي ينتمي إليها الفرد.
من أفضل ما يوضح تفاعل السلوك مع الأصل الثقافي والحضاري للفرد هي جرائم غسل العار. هذه الجريمة الشنعاء لا مكان لها في الدين الإسلامي وغيره من الأديان السماوية وغير السماوية. رغم ذلك ترى ممارسة هذا السلوك ليس بغير المعروف في الغرب عند العرب والأكراد ومن أصول باكستانية. ليس ذلك فحسب فإن هذا السلوك قلما يتم استنكاره في الكثير من البلاد العربية والإسلامية حتى يومنا هذا.
القواعد السريرية:
تواجه العاملين في الصحة النفسية الكثير من الأسئلة حول علاقة الثقافات والاضطرابات النفسية منها:
1- هل تتشابه أعراض الاضطرابات النفسية في جميع الحضارات؟.
2- هل يتفاوت معدل انتشار هذه الأمراض بين ثقافة وأخرى؟.
3- هل علاج الأمراض النفسية يختلف بين ثقافة وأخرى؟.
4- هل مسار الأمراض النفسية يختلف بين ثقافة أو أخرى؟.
الأعراض الطبية النفسية: القاعدة العامة في تصنيف أعراض الأمراض النفسية هي أن لكل ظاهرة نفسية طبية إطارا ومحتوى. يستمع الطبيب للمحتوى ويراقب سلوك المريض وبعد ذلك يحاول وضع ما سمع أو لاحظ في إطار. وما يُقصد بالإطار أولاً هو أن تصنف كلام أو سلوك المريض بأنه طبيعي أو غير طبيعي. بعد ذلك عليك أن تضع الظاهرة الغير الطبيعية في إطار طبي نفسي خاص بها. على سبيل المثال هناك من تشكو بأن أنفها مشوه وتطلب عملية تجميل. قد تكون هذه الفكرة طبيعية ويقرر الجراح عمل العملية بدون استشارة طبيب نفسي. لكنها أيضاً قد تكون فكرة حصارية Obsessive Idea حين تدرك المرأة بأن هذه الفكرة غير طبيعية ولا أساس لها من الصحة ورغم ذلك تفكر بها. قد تكون فكرة بالغة الأهمية Overvalued Idea إن كانت المرأة تكثر من مراجعة الجراح بعد الآخر، وربما قد تكون فكرة وهامية Delusional Idea بالطبع هذه الأيام أصبحت جراحة التجميل شائعة في الكثير من الحضارات بفعل الإعلام وتأثيره، والتدخل الجراحي قد يقول البعض ضرورة لزيادة الثقة بالنفس ورفع المعنويات. لكن مثل هذا الأمر يكاد يكون مرفوضاً في المجتمعات أو الثقافات الريفية.
مثال آخر لتقريب هذه الفكرة هو أن يقول شخص مصاب بالاكتئاب بأن سوء الحظ الذي عصف به وبعائلته مصدره الجن ودخوله البيت. إن كان هذا المريض أوربياً فسيتم تشخيص الاكتئاب الوهامي Delusional Depression أما المريض من أصل إسلامي فيمكن تصنيف كلامه بأنه فكرة اكتئابية Depressive Thought وليست وهامية.
انتشار الامراض: أما معدل انتشار الاضطرابات النفسية المختلفة بين حضارة وأخرى فهو ربما أكثر تعقيداً. الإجابة على هذا السؤال تعتمد على الدراسات الميدانية العلمية في الحضارة. هذه الدراسات بدورها تعتمد أيضاً على الأدوات العلمية المستعملة في البحث. معظم الأدوات المستعملة مصدرها اللغات اللاتينية الأوربية وبالتحديد الإنكليزية، ويتم ترجمتها إلى لغات أخرى. لابد لهذه الأدوات بعد ترجمتها أن تخضع لدراسات تحدد دقتها في اكتشاف ما يجري البحث عنه Reliability وكذلك شرعيتها في اكتشاف ما يبحث عنه الباحث Validity يضاف إلى ذلك لابد من مراقبة التحيز من قبل الباحث والمريض الناتج من جراء استعمال الأدوات بلغات مختلفة. القاعدة العامة بأن معدل انتشار الأمراض الذهانية يكاد يكون متساوياً في جميع الثقافات والحضارات على عكس الاضطرابات الغير ذهانية. إذا تفحصت موقع الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية يمكن ملاحظة كثرة الاستشارات بشأن الحصار المعرفي (الوسواس القهري) مثلاً مقارنة باضطرابات أخرى. لكن في عين الوقت ترى بأن اضطراب الشخصية الحدية الذي يعتبره البعض ظاهرة ولدت من جراء تحرر المجتمع الغربي، شائع نسبياً في العديد من الاستشارات ومن مختلف بلدان العالم العربي.
العلاج: عند الحديث عن العلاج فالمقصود هنا ليس العلاج بالعقاقير فقط وإنما العلاج الكلامي. عند تناول العقار يتم التخلص منه عن طريق الكبد أو الكلى أو كليهما. الإنزيم الكبدي المسؤول عن العملية هو سايتوكروم بي 450 Cytochrome P 450 على سبيل المثال هناك 3 عقاقير شائعة الاستعمال وترى أن هناك مجموعة من الأفراد يتخلصون بالعقار عن طريق الكبد بصورة بطيئة مقارنة بغيرهم، نسبة المجموعة البطيئة لعقار الدايازيبام Diazepam أو الفاليوم Valium تقارب الـ 20% في السكان من أصل أسيوي مقارنة بـ 2% من أصل أوربي أبيض. النسبة تكاد تكون متشابهة لمضاد الاكتئاب Clomipramine ومعاكسة تقريباً لعقار الفلوكستين أو المعروف بالبروزاك(3) Prozac.
أما العلاج الكلامي فيختلف كلياً بين مريض وآخر اعتماداً على خلفيته الثقافية وأصوله الحضارية. لا يجوز تقديم علاج نفسي كلامي بدون إلمام كامل بثقافة وحضارة المريض وينطبق ذلك على جميع الاضطرابات النفسية.
المسار: هذه النقطة تثير الكثير من الجدال بسبب دراسة منظمة الصحة العالمية عام 1973 التي استنتجت بأن مسار الفصام (الشيزوفرانيا) أفضل بكثير في بلاد العالم الثالث مقارنة بالبلاد الغربية الغنية. أصبحت هذه المقالة أشبه بعقيدة يتمسك بها البعض على أن الحضارة الغربية لها تأثير سلبي على مسار أكثر الاضطرابات النفسية تعقيداً. لكن وضع هذه الدراسات تحت المجهر من قبل الكثير من الباحثين(2) أظهر بأن هذه البحوث تفتقر إلى أدلة علمية خالية من الشك من ناحية أسلوب البحث والمعايير التي تم استخدامها للوصول إلى نتائج لا يمكن وصفها إلا بالمتحيزة.
أما الاضطرابات الوجدانية(6) فليس هناك دليل قاطع على أن مسارها في العالم الغربي يختلف عن ما هو في العالم الشرقي وربما يمتد ذلك إلى بقية الاضطرابات، ومنها اضطرابات الشخصية(7).
نقاش عام:
لم يتطرق المقال إلى مجموعة من الاضطرابات المعروفة بالمتلازمات الملزمة بالثقافات Culture Bound Syndrome جميع هذه المتلازمات محصورة في مجتمعات محدودة والتفحص فيها ينتهي باستنتاج واحد وهو أن جميعها اضطرابات انفصالية(4) Dissociative Disorders. تحمل هذه المتلازمات مصطلحات متعددة لا أهمية سريرية لها هذه الأيام.
الثقافات لا حدود لها ومتعددة حتى في محيط ضيق لخدمات صحة نفسية في مدينة أو قرية. يضاف إلى ذلك أن حركة التنقل والهجرة من قارة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، أو مدينة إلى أخرى أنتجت تواجد ثقافات متعددة في منطقة جغرافية ضيقة. كذلك هناك الهجرة من الأرياف نحو المدن وهذه بدورها تسببت في زيادة التحديات في الطب النفسي وتقديم الخدمات الاجتماعية الصحية النفسية للسكان. كذلك تلعب الهجرة دورها في زيادة انتشار الاضطرابات النفسية في المنطقة الجغرافية. على ضوء ذلك لابد للطبيب النفسي وجميع العاملين في الصحة النفسية من معرفة بالثقافات المتواجدة في مناطق عملهم والحصول على التدريب المطلوب للقيام بهذه المهمة.
لا تزال الإحصائيات والدراسات الميدانية في العالم العربي تعتمد على أدوات بحث تم استحداثها في الغرب(1). ولابد من السعي إلى استحداث أدوات عمل تتلاءم مع ثقافة البلد وطبيعته السكانية والجغرافية.
المصادر:
1- Canino, G., Lewis-Fernandez, R., & Bravo, M. (1997). Methodological challenges in cross-cultural mental health research. Transcultural Psychiatry, 34(2), 163-184.
2- Cohen A, Patel V, Thara R, Gureje O(2008). Questioning an axiom: better prognosis for Schizophrenia in the developing world?. Schizophrenia Bull 34(2): 229 – 244.
3- Flockhart D (1995). Drug interactions and the Cytochrome P 450 system. Clin Phramcokinet 29(Suppl 1): 45-52.
4- Kirmayer L. J. (1994). Pacing the void: Social and cultural dimensions of dissociation. In D. Spiegel (Ed.), Dissociation: Culture, Mind and Body, (pp. 91-122). Washington: American Psychiatric Press.
5- Kroeber A, Kluckhohn C (1952). Culture: a critical review of concepts and definitions.Papers. Peabody Museum of Archaeology & Ethnology, Harvard University, Vol 47(1), 1952, viii, 223.
6- Manson, S. M. (1995). Culture and major depression: Current challenges in the diagnosis of mood disorders. Psychiatric Clinics of North America, 18(3), 487-501.
7- Paris J. (1997). Social factors in the personality disorders. Transcultural Psychiatry, 34(4), 421-452.
واقرأ أيضًا:
كيف نعالج مرضانا؟؟ / نحو علاج نفساني يعتبر الخصوصية العربية الإسلامية / الفجوة بين الطب النفسي والمعتقد الثقافي/ أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (3)