جلست تتنظر قطارها في مقهى محطة القطار، كان يوما دراسيا شاقا أكمل القدر شقائه بفوات ميعاد قطارها وانتظار القطار التالي له, بلغت من الإرهاق ما يمنعها من مراجعة ما درسته طوال اليوم كعادتها, لتوفر بعضا من الوقت الذى اقتطعته من وقت رعاية أبنائها.
طلبت من النادل فجانا من القهوة وجلست في ركن المقهى, ورغم التعب والإرهاق لم تمهلها أفكارها وقتا للراحة، أتعبها الطريق ولكنها تواصل, أنهكتها قسوة الظروف ولكنها تقاوم, لابد وأن تعبر الطريق, الحمل ثقيل والطريق طويل لا يعلم نهايته إلا الله، تلوم نفسها "أنت امرأة, لماذا تحملين ما لا تطيقين؟" ثم تعود من أفكارها لا شيء معها سوى ﺇصرار أكبر على إنهاء الطريق وبقوة استمدتها من ضعفها وحاجتها بل من ضعف أبنائها وحاجتهم, تنهدت لتخرج جزءا من همومها في آهات لا يسمعها البشر ويراها رب البشر.
رفعت رأسها فإذا به يقف بجانب طاولتها, نظرت إلى عينيه العسليتين اللتين ظهر منهما الشقاء وسألته "كم عمرك؟"، كان يبلغ الستة أعوام, سألها دون رجاء ﺇن كانت فى حاجة لبعض المناشف الورقية فأجابته على الفور "نعم" ثم همت أن تخرج له النقود ومعها قطعة من الحلوى التي اشترت بعضا منها لأطفالها بينما هَمَّ الطفل أن يفتح لها الغلاف الخارجي للعبوة فأمسك بطرفها بين أسنانه ليفتحها, سارعت والتقطت منه المناشف وطلبت منه ألا يفتحها بهذه الطريقة ثم أخرجتها بنفسها بعد أن وضعت له النقود على الطاولة وفوقها قطعة الحلوى.
أخذ مناشفه من بين يديها وسحب النقود وترك الحلوى واستدار.... تنادي عليه ليأخذ الحلوى ولكنه يرفض، يهز رأسه يمينا ويسارا مقتضب الوجه ويرحل، ظلت تناديه ولكنه أبى أن يرجع....
تسمرت عيناها وهي تراقبه حتى اختفى عن الأنظار, لحظات صمت رغم ضجيج المكان "لماذا لم يأخذ الحلوى؟", هي لديها أطفال وتعلم جيدا أن قطعة الحلوى هذه أغلى عندهم من النقود, ولكنه رفض، هل جرحته بتصرفها هذا؟ "كان من الممكن أن تأخذي منه المناشف ثم تتركينها, ﺇن ما دفعك لشراء تلك المناشف هو عطفك عليه وليس احتياجك لبضاعته". لكن هل هذا ما دفعه لرفض الحلوى؟ أم أنها العفة التي لم يجد البشر وقتا لغرسها في نفس هذا الطفل ولكن أبى الله سبحانه وتعالى ﺇلا أن يغرسها، احتارت لماذا تصرف معها بهذه الطريقة, أهي الكرامة؟ أم العفة؟ ماذا؟؟؟!!! تتحدث عن الكرامة والعفة عند ذي الستة أعوام؟ لقد صفعها هذا الصغير صفعة أفاقتها من غيبوبتها, الرجولة يا سيدتي ليست ذكرا, بل من الممكن أن تكون طفلا, أن تكون امرأة.
نعم الرجولة ليست سنا أو جنسا بقدر ما هي صفات ومقومات, الرجولة ليست مظاهر براقة, ليست بالصوت ولا بالسوط, ليست لمن يستطيع أن يجرح أكثر أو يكسر أكثر. نعم... الرجولة قوة وقوة الجبر أعلى وأشد من قوة الكسر.
علمها هذا الصغير أن الرجولة صفة يجب أن تكون في الرجل كما المرأة وربما رأتها اليوم في طفل.....
تركت المقهى متوجهة ﺇلى قطارها وهي تردد في نفسها "سامحني يا ولدي، ﺇن كنت قد جرحت إحساسك واستهنت بمشاعرك دون قصد مني, وأما ﺇن كنت رفضت الحلوى لعفة فيك فأيضا سامحني لأني لم أدرك أن كرامتك كانت أغلى عندك من الحلوى بل سامحني لأني رأيتك طفلا وأنت تفوق في رجولتك الكثيرين ممن تفوق أعمارهم وأجسادهم عمرك وجسدك الضئيل ولكنك ﺇن وضعت أمامهم في ميزان لأطحت بهم أجمعين, نعم يا ولدي لا يستويان".
واقرأ أيضاً:
أين أنت يا سيمبا ؟ / قدوم مدارس ورحيل مدارس