مع استفاقة أشعة الشمس واعتدالها فوق الأفق في أحد صباحات الشتاء الباردة، استيقظت على صراع خلايايا مع الإرادة وكانت تشدني للبقاء تحت الدثار الدافئ هربا من صقيع الغرفة، بينما كان الواجب يأمرني بالترجل من صهوة النوم وأحلامه الجميلة، للمثول بين يدي خالقي ومبدعي وصانع هذا الكون الفسيح.
هرولت للماء البارد أتحمله على دفءِ جلدي، لتقف شعيرات بدني متأهبة للركوع والسجود، وتسجّل على خلاياها المستطيلة ما تشهد لي به يوم القيامة.
لقد كان تسجيل البارحة في نواتات خلاياي ما لا يليق بعبد محب خجول مثلي. وقد يكون اهتزاز جلدي تحت صفعات البرد القادم من الماء، فالهواء، فالوقوف على بساط الصلاة، أفضل ما أمحو به من تاريخي المشين أو ما أسطر به ما يبعث من أناملي الضوء في عتمة القيامة يوم يقوم العباد وبعضهم يسعى نورهم بين أيديهم.
انتصرت عزيمة الامتثال للعبودية عندي، وانهزم التردد وتهديدات الصقيع بالأنفلونزا والزكام. سبحت، ركعت،… صليت، دعوت.
لقد رق قلبي لنفسي وأشفقت على ذاتي، وتمنيت لو كان عندي كانونا مملوءا بفاكهة الشتاء أطفئ به لهيب البرد الحارق كألسنة النيران. تمنيت لو أن بارئي يغمرني تحت عباءته كما كنت لأفعل مع ابني الصغير عندما أراه مزرورقا في فصل الشتاء. ولكن من يدري بٍكَم من عباءات النعم التي لا أحصيها يغمرني ربي وسيدي ومولاي. وكم من النعيم قد أعد كرمه لي في الآخرة التي هي خير وأبقى.
أنهيت الصلاة. لا بل أنهيت الركعات القليلة المفروضة في الصباح، ولمّا تنتهي صلاتي التي لا تتوقف عندي إلا عند انتهاء الزفرة الأخيرة بالخروج من رواياي. أخذت أنظر من خلف الزجاج للخارج الذي امتزجت فيه أشعة الضوء مع قطرات السماء المنسكبة على نسائم النعم والتي تزرع الحياة في كل خَضِرٍ ويابس وفي كل ساكنٍ ومتنفس.
نظرت إلى الزجاج، وإذا بي أرى بعض الذباب الواقف على باب شرفتي وهن يطرقنه بأيد جمدها البرد في الخارج ويتمنين أن أفتح لهن لأنقذهن من الهلاك المحتوم.
استمعتُ لصوتهنَّ الذي خَفَتَ ولم يعد يقدر على الارتجاف أو الزحير. فتحتُ لهن الباب لا بل شققته، لأن الكثير من الهواء البارد في الخارج هب للدخول معهنّ كي يستعطي بقايا الدفء النسبي في غرفتي المتواضعة.
دَخَلَتْ الذبابات الثلاث مسرعات، لا بل مبطئات لأنهن لم يستطعن الإسراع. وأخدن تعيدن الروح لأقدامها وأجنحتها المتجمدة.
لم تمر دقائق على دخولها المنزل حتى شعَرَتْ وكأنهن في بيتهن، وأخذن يسرحن ويمرحن حيث شئن، بل أخذن يكسرن سكون غرفتي بطنطناتهن الشعواء أو ربما قد تكون تسبيحاتهن التي لا أفهمها ولكنها غير مستساغة لمسمعي.
أخذت الذبابات تنقر أنفي تارة وطورا أذنَيّ وأطوارا عينَيّ وخدَيّ ويدَيّ. لقد هاجمنني من كل حدب وصوب، أحطنني من كل جانب، حاصرنني. وأخذن يسرقن مني بعض خلاياي الميتة أو بعض فتاتاتي. ولكنهن كن يزعجنني بأقدامهن على صفحات جلدي الذي انخفضت حرارته أكثر مما ينبغي. أخذن مني، أو سرقن مني ما أردن لما شئن، ما لا أعرفه من نعم الله، وبأقل تعديل لقد أزعجتني. وأنا لا أستطيع أن أستنقذ منهن ما سلبنني. إنها إرادة الله سبحانه بأن يستضعفنا الذباب كي لا نشمخ بأنوفنا كوننا أسياد الكائنات. لقد أثبتن لي بأنك قد تفعل خيرا مع الذباب ولكنك قد تلقى منهن شرا، بغض النظر عن الثواب الذي يتسجل لك في دفتر أعمالك.
فبشر الصابرين!! ولكني لا أعرف في المرة القادمة، إذا ما طرق على بابي الذباب بأياديه الضعيفة، هل سأفتح الباب أم أتركه موصدا؟!
ويبقى السؤال، هل أن الباري سبحانه سيفتح لي باب رحمته عندما يشتد البرد إذا الشمس كوّرَتْ...؟!
سامحني يا رب. سأفتح لهم مرة أخرى، فافتح لي باب رحمتك في المرة الأخيرة.
واقرأ أيضاً:
لقد أكل الحملان الذئب!!! / رؤيا في عرنابا / ماء... مّــاء... مّـــاء... كهربــاء