المقدمة
كان عام 2011 هو بداية مرحلة تاريخية في العالم العربي يتم التعبير عنها عالمياً بربيع الثورات. كانت توقعات النقاد بأن الأمور سيتم حسمها عام 2012 ولكن مع نهاية العام واستقبال 2013، لا تزال هذه الثورات موضع دراسة وتحليل من قبل الكثير منهم عالمياً وعربياً. كذلك بدأت ظاهرة الاستقطاب تتصدر بعض الآراء العربية والغربية على حد سواء وخاصة على البعد العلماني– الإسلامي.
تم إجهاض ثورة البحرين بتدخل مباشر من السعودية وقطر ومجلس التعاون الخليجي، وعلى الرغم من تحفظات الإدارة الأمريكية واستنكار مؤسسات عالمية طبية(1) ورياضية(2) وإنسانية للإرهاب الحكومي الخليجي، فإن الإعلام العربي والجامعة أغلق ملف البحرين وبإحكام. تصور الكثير من النقاد بأن الإدارة البحرينية ستنقض بعض الأحكام العشوائية الصادرة بحق المتهمين، ولكن ذلك لم يحدث ولم تستجب الحكومة البريطانية للضغط الإعلامي والشعبي بعدم دعوة العائلة البحرينية الحاكمة لحضور احتفالات التتويج في 2012.
نجحت دول الخليج عموماً بابتزاز سكانها مادياً بعد ظهور مؤشرات لعصيان مدني محدود. نشطت عمليات توظيف المواطنين في دولة الإمارات وتم استحداث وظائف خيالية وبأجور غير معقولة مما أثر ذلك على وظائف القطاع الخاص الذي هو أكثر فعالية. كذلك فعلت قطر والسعودية والكويت. لا تزال الكويت تعاني من عدم الاستقرار السياسي بسبب نظام ديمقراطي مخادع لا تعرف الدولة التعامل معه ولا يعرف مجلس النواب التعامل مع الأسرة الحاكمة.
قامت الأردن والمغرب بإقامة تعديلات دستورية هدفها استحداث ملكية دستورية ضمن إطار نظام ديمقراطي يشبه إلى حد كبير النظام البريطاني والإسباني. ورغم أن التجربة المغربية أكثر نجاحاً من الأردنية إلى يومنا هذا، ولكنها لا تزال غامضة والتاريخ المغربي الحديث يشهد بقوة المؤسسة العسكرية. الأردن له مشاكله وأصبح من الصعب معرفة من يترأس الوزارة من كثرة استبدال رئيس الوزراء.
أما الثورة في مصر فكانت الرؤية غير واضحة مع استمرار الجيش المصري الجلوس على مقعد السلطة، وسطوع التيار السلفي، وانتخابات برلمانية حرة نتج عنها استقطاب رهيب في صفوف الشعب المصري. لم يفلح السيد مرسي في توحيد الشارع المصري واستغل نجاحه المقنع في وقف القصف الإسرائيلي لغزة والذي كان سيتوقف بلا محالة، في التسرع إلى درجة اعتبرها الكثير مثالاً للتهور السياسي في صياغة دستور لمصر لا يوازي البعد الحضاري للبلد.
الأمر في تونس كان يشبه إلى حد كبير ما يحدث في مصر، ورغم أن الربيع العربي بدأ في تونس، فإن الإعلام العربي والعالمي قلما يتطرق إليها هذه الأيام. لا تزال الحركة الديمقراطية التونسية تعاني من مشاكلها ولم يحدث إلى الآن نمو اقتصاديا يشعر به المواطن التونسي وهناك أكثر من علامة استفهام حول مقدرة على حزب النهضة إدارة شؤون البلاد.
أما ليبيا فقد قامت فيها حرب أهلية بكل معنى الكلمة واستسلم القذافي وسقط نظامه. بدأت بعض وسائل الإعلام تتحدث عن دور الشركات النفطية العالمية ومصالح قطر في قيام هذه الثورة. تزامن سقوط القذافي مع ما صرحت المالية البريطانية على لسان داني ألكسندر، بأن ليس في نيتها تخصيص أموال إضافية للعمليات العسكرية في خريف 2011، مما يفسر قوة تحرك حلف شمال الأطلسي أيامها.
أما سوريا فتتصدر الأخبار العربية وتواجه ضغوطاً عربية وعالمية ولكن الأقلية الحاكمة لا تزال على مقعد السلطة. انتهت الثورة السورية بقيام حرب أهلية شرسة يتحمل الجزء الكبر من مذابحها السلطة ولكن الجيش السوري الحر ومختلف صفوف المعارضة لعبت دورها كذلك. هذه الثورة أصبحت حرباً طائفية بدأت تنتشر نحو شمال لبنان.
أما اليمن فقد لا يزال الاستقرار غريباً عليه، ولا أحد يمكنه التخمين بمستقبل بلد يواجه جفافا تاما في المستقبل، حاله حال العراق في هذه المأساة البيئية التي يتجاهلها الجميع.
أما العراق فلا يزال يعاني من نوبات صرع إرهابية، وتم فرض نظام ديمقراطي لا يدفع باتجاه حكومة أكثرية. أما السودان فهو منهك بمواجهات وصراعات بعد التقسيم.
مع كل هذا الغموض الذي لا نهاية له لا بأس من مراجعة بعض النظريات التي تلقي الضوء على ظاهرة ربيع الثورات العربية.
النظرية العفوية
تتلخص هذه النظرية بأن ربيع الثورات كان نتيجة حتمية وعفوية لقمع متواصل للشعوب العربية على يد طغاة تسلطوا على شعوبهم لعدة قرون من الزمن. فجأة قام شاب من تونس بعملية انتحارية مستهدفاً نفسه لا غير، وبعدها استيقظ الشعب التونسي من غفوته. بفضل التكنولوجيا الغربية، والتي لم يكن للشعب العربي أي دور في ولادتها، تم الاتصال بين طبقات الشعب وقامت الثورة وسقط الطاغية بعد تدخل الجيش التونسي الذي أدرك بأن زعيمه أصبح يشكل خطراً على مصالحه. انتشر تأثير الثورة التونسية على مصر وبقية البلاد العربية، وأثبت الشعب العربي بأن المطالبة بالديمقراطية ليست حصراً على الشعوب التي تتكلم اللغات اللاتينية التي ورثت هذا النظام بعد أن خلعت اللباس الديني وعادت إلى أصلها الكلاسيكي لأيام الحضارتين الإغريقية والرومانية.
يميل إلى هذه النظرية معظم الكتاب العرب والكثير من مثقفي الغرب. هنالك البعض من المشككين بأن زخم هذه الحركات لا يتلاءم مع عفويتها، وتحمل في طياتها ألكثير من المتناقضات من خلال مواقف الدول العربية وبالذات الخليجية منها، التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي، ومناورات البيت الأبيض الأمريكي.
نظرية المخطط الأمريكي
أول من تحدث بهذه النظرية هو الكاتب الأمريكي لي سمث(3) في كتابه الحصان القوي الصادر في عام 2010. يشير الكاتب في كتابه إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بالتخطيط لتغيير الوضع السياسي في العالم العربي بعد أحدات الحادي عشر من أيلول عام 2001، حيث انتبهت إلى أن الإرهاب العالمي ولد وترعرع في العالم العربي بسب غياب النظام الديمقراطي، مما يؤدي بدوره إلى الكبت، التطرف السياسي، والتوجه نحو الفكر الديني المتعصب. متى ما ولدت ديمقراطية حقيقية، فإن الأكثرية المطلقة من الشعب التي لا تميل إلى التطرف ستلعب دورها الطبيعي في احتواء الميل إلى الإرهاب. واجهت الإدارة الأمريكية معضلة الإدارة السعودية التي تلعب دورها في ضمان تدفق النفط والحد من ميول بعض دول الأوبك إلى ذبذبة السوق العالمي، وهذه الإدارة بحد ذاتها هي الراعي الأول والأخير للفكر الوهابي السلفي الذي يمارس الإرهاب علنياً منذ ولادته.
اتخذت الإدارة الأمريكية قرارها بغزو العراق رغم علمها بأن مسألة أسلحة الدمار الشامل ضعيفة، وتم اختيار بلاد الرافدين لقربها من إيران، مجازر صدام حسين الشهيرة علنياً، ضمان الموقف الكردي المناصر لأمريكا، وتأييد دول الخليج. كان قيام قاعدة أمريكية في العراق بداية الطريق لنشر الأفكار الديمقراطية والعلمانية في أنحاء العالم العربي. كذلك ضاقت أمريكا ذرعاً بالطغاة العرب الذين أكثروا من استعمال حجة الإرهاب الإسلامي والمناورات المتكررة مع الإدارة الأمريكية وفشلهم في احتواء الإرهاب والتشجيع على تصديره أحياناً.
لا يمكن لأحد تجاهل قوة الوجود الأمريكي علناً وسراً في العالم العربي، وجولات وزيرة الخارجية الأمريكية في العالم العربي أيام الثورات ربما يعكس زخم التأثير الأمريكي. اشتهرت السيدة هيلاري كلينتون بأنها أكثر مسئول أمريكي متعاطف مع الحكومات العربية في تاريخ الولايات المتحدة. قطعت سفرتها إلى بورما لتحل مشكلة غزة، ويقال أنها أعطت الإشارة الخضراء لمحمد مرسي بصورة غير مباشرة لتوسيع صلاحياته أيامها. لا يشمل التأثير الأمريكي الأقطار العربية ولكن حتى تركيا التي يتصور الكثير أنها قوة عالمية من الدرجة الثانية، لا تتخذ قراراً بدون استشارة واشنطن وخاصة في الحرب الأهلية السورية. حاولت تركيا احتلال موقع الصدارة في سوريا لأسباب جغرافية وتاريخية وسكانية، ولكنها فشلت في حسم الصراع بسرعة رغم الدعم المالي السعودي القطري وتجنيد المرتزقة الأجانب للقتال.
نظرية التركيبة القبلية العربية
تحدث الكثير من الكتاب عن التركيبة القبلية للمجتمع العربي قبل وبعد الإسلام(3،4) والتي تفسر طبيعة الكيان السياسي منذ وفاة الرسول الكريم وإلى يومنا هذا. المجتمع العربي يمكن تصويره في العصر الحديث بقبيلة كبيرة تشكل 70٪ من السكان تنتمي إلى المذهب السني الإسلامي، أما بقية السكان فهم مجموعة من قبائل صغيرة عليها الخضوع والطاعة للقبيلة الأكبر والأقوى والتي زعامتها في عصرنا هذا تتمثل بالعربية السعودية أولاً وقطر ثانية، وتدير الشؤون الخارجية خلال مجلس التعاون الخليجي.
تفسر هذه النظرية انزعاج القبيلة الكبرى لتسلم شيعة العراق (قبيلة صغيرة) زمام الأمور بعد الغزو الأمريكي ومساندة دول الخليج للإرهاب بكل أنواعه سراً وعلناً داخل العراق. لم يتردد الملك عبد الله عاهل الأردن من التصريح علنياً بخطر الهلال الشيعي في المنطقة قبل عدة سنوات رغم أن شرعية كيانه وجلوسه على العرش كان بتخطيط بريطاني تفادياً لقيام دولة يهودية تضم تاريخياً شرق وغرب نهر الأردن. كذلك الأمر مع القبيلة العلوية الصغرى في سوريا والتي تضم في أحضانها أقلية مسيحية، سحق الثورة البحرينية، والتخلص من طاغية معتوه غير ملتزم في ليبيا.
نظرية الحرب الباردة الشرق أوسطية
شاعت هذه النظرية لفترة طويلة وتطرق إليها بعض الكتاب(5)، وتتلخص في وجود كتلتين هي كتلة المقاومة ضد إسرائيل بزعامة إيران وكتلة الوضع الراهن المساندة لإسرائيل بزعامة السعودية. كان سقوط طاغية تونس وطاغية مصر ضربة موجعة لهذه الكتلة. رجع زعيم كتلة الوضع الراهن من أوربا٫ وتحرك بسرعة لاحتواء أي تحرك في الخليج، وبدأت الكتلة في تحريك أعوانها في مصر وتونس من الإسلاميين لتسلم زمام السلطة وبدأت بالحرب ضد سوريا وليبيا من كتلة المقاومة. كذلك سارع مجلس التعاون الخليجي لحماية ملكي الأردن والمغرب بدعوتهم للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي.
النظرية الاقتصادية
يمكن دراسة التاريخ في كل العصور من وجهة نظر اقتصادية، وكذلك الأمر في الثورات العربية الحديثة منها والقديمة(6). لا يزال العالم الغربي، ويشمل ذلك العالم العربي، يعيش ركوداً اقتصادياً وعدم استقرار حركة الأسواق العالمية. لكن رغم ذلك، أثنى البنك الدولي على الإصلاحات الاقتصادية في مصر وتونس قبيل الثورات، وتوقع خبراء الاقتصاد نمو اقتصادي معتدل وسليم في المستقبل. يميل البعض إلى القول بأن الإصلاحات الاقتصادية كانت موجعة للسكان في بلدين لا رأي للمواطن فيهما مما عجل بقيام الثورات. كذلك كان الوضع الاقتصادي المتراجع في أوربا والإمارات العربية سبباً في الهجرة العكسية مما عجل تضخم سخط الجماهير وقيام الثورات.
هذه الظروف الاقتصادية لعبت ولا تزال تلعب دورها في الأردن. طلب صندوق النقد الدولي إجراءات تقشفية مقابل قروض مالية. انتظر الأردن دعماً مالياً خليجياً لم يحدث على أرض الواقع والذي بدوره يلقي الضوء على تفاعل النظريات بعضها مع البعض الآخر.
نظرية المؤامرة
رغم أن هذه النظرية أكثر استعمالاً من غيرها في تفسير الأحداث في العالم العربي، ولكنها لم تحتل موقع الصدارة إلا في تفسير الثورة البحرينية وفي تصريحات الأسد والقذافي. كذلك تتميز الأحداث الراهنة بقلة أو بالأحرى انعدام الإشارة إلى الدولة العبرية إلى الآن كمصدر للتأثير على الأحداث. رغم حرب غزة القصيرة التي دفعت مرسي باتخاذ قرارات تتعارض مع روح الثورة المصرية، فإسرائيل لا تزال على الهامش، واليمين يجدد ولايته قريباً، ومصمم على استمرار عمليات الاستيطان والتركيز على الخطر النووي الإيراني ليس عليها فحسب بل على العالم العربي. بعبارة أخرى نجحت اسرائيل في فرض نظريتها على العالم العربي بوجود عدو مشترك بينهما يمتلك أسلحة دمار شامل والأخطر من ذلك كونه معادياً للإسلام. لا تختلف هذه المناورة عن اندفاع العالم العربي الإسلامي في حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي والتي أنتجت دماراً لا مثيل له إلى يومنا هذا.
الخلاصة
أن الأيام أو الشهور بل وحتى الأعوام القادمة ستكشف للتاريخ ما الذي حدث في أعوام ربيع العالم العربي. لا يمكن التركيز عل أية نظرية بمفردها لتفسير الحدث. لا شك أن النظريات الخمسة أعلاه تفاعلت بعضها البعض قبل وخلال قيام الثورات العربية الحديثة، ومقدار زخم أي عامل ونظرية يختلف من قطر الى آخر. إن النظرية العفوية تتميز برومانسيتها مما يجعلها أكثر النظريات شيوعاً وجمالاً في زخم الأحداث، ولكنها غير كافية لتفسير الأحداث ولا تستند إلى براهين واقعية. أما المخطط الأمريكي للحرب ضد الإرهاب وتخليص العالم من مصدره العربي فهي أكثر النظريات إثباتاً تاريخياً منذ عام 2001 إلى الآن، وتقع ضمن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب العالمي أو بالأحرى العربي الإسلامي. أما النظريات الثلاثة الأخرى فتفسر بعض الأحداث كقمع حركة البحرين، وحماية عروش الأردن والمغرب، وتعاظم المد الإسلامي في مصر وتونس.
منذ قرون تحدث ابن خلدون عن أن السلالات الحاكمة لا تدوم أكثر من ثلاثة أجيال قبل أن يقضي عليها الفساد الإداري. تتسلم مجموعة أخرى وتقوم سلالة حاكمة أخرى. قول هذا المفكر العظيم لا يخلو من الصحة. هذه السلالة الحاكمة تتمثل في عوائل تربعت على عرش الدولة بعد اغتصاب السلطة أو تأهيلها من الاستعمار الغربي، أو المؤسسة العسكرية كما هو الحال في مصر. جميع الدول 22 الأعضاء في ما يسمى بالجامعة العربية مرت بثلاثة دورات من سلالات حاكمة ويبدو أن الإجهاد قضى على بعضها وسيقضي على البقية الأخرى(7). عبد الله بن الحسين ومحمد السادس يفتقدان إلى الجاذبية السياسية التي امتلكها الآباء، ووعود آل سعود والحكومة الجزائرية بإصلاحات ديمقراطية لن تجد تطبيقاً على أرض الواقع.
مهما كانت الأسباب في قيام هذه الثورات فهي بلا شك قضت أو على وشك أن تقضي على الطغاة حيث عانت شعوبهم من كبت للحريات وضيق اقتصادي. أما الأكثر أهمية من ذلك فهو ما شكل النظام الديمقراطي مستقبلاً في العالم العربي وعلاقته بالحصان الإسلامي القوي اقتصادياً وعسكريا والذي لا وجود للديمقراطية فيه أصلاً؟.
المصادر
1 - المجلة الطبية البريطانية. 13 آب. 2011.
2 - مجلة آلأيكونومست 13 آب. 2011.
3 - لي سمث. الحصان القوي. القوة، السياسة و صراع الحضارات العربي 2010.
4 - آين مورس لماذا يحكم الغرب الآن 2010.
5 - سداد جواد التميمي. مقالات عدة ( موقع اخبار و معارج)2011 / 2012.
6 - الإيكونومست . 6 آب 2011.
7 - الإيكونومست، العالم 2013، كانون الاول 2012.
واقرأ أيضاً:
حول قابلية الدول العربية لحضانة الثورات / انتقال الثورات / ما هو مستقبل الوطن العربي باستمرار الثورات القائمة؟