ما لنا غيرك يا الله(2)
ثم هنالك المجرمون الذين يمارسون القتل والسطو المسلح، فإن حكم الله فيهم إن وقعوا في قبضة الحكومة حكم قاس شديد، وهو أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يُنْفَوْا من الأرض، وقد فسر البعض النفي بالسجن. لكن إن تابوا قبل أن يتم القبض عليهم سقطت عنهم العقوبة والملاحقة القضائية، قال تعالى في سورة المائدة: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }.
ويبقى السؤال: لِمَ أسقط الله العقوبة عنهم بمجرد أن تابوا وتوقفوا عن جرائمهم؟
إن في ذلك حكمة عظيمة، فالحكومات تعرف مدى صعوبة محاربة العصابات المسلحة وتعذر القضاء عليها، لذا ترك الله لهم باب التوبة والعودة إلى المواطنة الصالحة مفتوحاً، وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم مضطرين للاستمرار في نشاطهم الإجامي حتى يُقْتلوا أو يُؤْسَروا طالما أنهم سيلاحقون على جرائمهم التي تورطوا فيها في جميع الأحوال. هذا العفو الدنيوي لا يسقط عنهم الإثم والعقوبة في الآخرة، ولا يضيع حق من سُلب ماله أو عرضه أو أصيب بجرح أو قتل فرد من أسرته، بالتعويض المجزي والسخي، إنما يتم التعويض من مال الدولة، ويترك المسلحون الذين تابوا قبل أن يتم القبض عليهم دون ملاحقة حتى يتشجعوا على العودة إلى الحياة الشريفة ولا يتحولوا إلى أسرى لماضيهم ولجرائمهم التي ارتكبوها.
إن هذا العفو عن الذين ارتكبوا الجرائم بحق الأمة ثم قرروا التغيير من قبل أن يهزموا ويتم القبض عليهم ليس من أجلهم، بل هو من أجل المجتمع الذي يفقد الشعور بالأمان إن استمروا في جرائمهم ويصعب عليه هزيمتهم في أغلب الحالات إلا بعد ضحايا كثيرين.
رب العالمين يحرص على المصلحة العامة ويعطيها الأولوية على العواطف والرغبة في الثأر والانتقام. هذا بخصوص المجرمين فكيف بخصوص الذين يرتكبون جرائمهم بدافع سياسي ونحن لم ننتصر عليهم ونأسرهم إنما هم انقلبوا على النظام وأطاحوا به ليتحقق للثورة بعض الذي تكافح من أجله.
قد يقول البعض إن الثورة في غنىً عن هؤلاء وستستمر من دونهم ولا بد أن يسقط النظام في النهاية وتتم محاسبة هؤلاء على جرائمهم.
أولاً: الواقع يقول إن نظاماً من أناس لا حياء عندهم ولا كرامة لن يتخلى عن السلطة ويعرض نفسه للملاحقة لمجرد أن الملايين خرجت إلى الشوارع تهتف مطالبة بسقوطه. إن رجلاً عنده كرامة مثل ديغول استقال واعتزل السياسة عندما طرح للاستفتاء مشروعاً فرفضه أكثر من نصف الشعب الفرنسي فاستقال ديغول، ولم يكن أحد يطالبه بالاستقالة، إنما كانوا يعارضون مشروعه، ولو بقي في منصبه لما ذمه أحد. لكن الأناس الذين نحن مبتلون بهم لا حياء عندهم ولا كرامة، ولن يأتي اليوم الذي يستجيبون فيه لهتاف الجاهير مهما علا ومهما زاد عدد المتظاهرين.
نعم يجب أن لا نيأس وأن لا تتثبط هممنا، لكن علينا التفكير بواقعية، فالله لن يفرج عنا بمعجزة ولابملائكة تهبط من السماء لتطيح بالنظام استجابة لرغباتنا ودعائنا، إنما فرجه يكون من خلال أسباب وعوامل يبدو لي أن انقلاب بعض الضباط العلويين وغير العلويين على النظام الذي هم جزء منه الآن هي الوسيلة التي يمكن أن يفرج الله عنا بها دون أن نرهن مصير بلادنا بيد الأمريكان وغيرهم. لذا علينا أن نسعى في هذا الاتجاه، فهو اتجاه واقعي ومحتمل جداً وتستطيع الاحتجاجات السلمية للمدنيين والانشقاقات السلمية للعسكريين والدعم الدولي السياسي والإعلامي أن تقود إليه، فالهدف هو أن تنصلح أحوالنا ونتخلص من حكم المخابرات والأجهزة الأمنية المتسلطة على رقاب الناس وأموالهم، حتى لو لم يمكن القصاص والثأر للشهداء والمظلومين من قتلتهم وجلاديهم، المهم هو أن يتوقف القتل والظلم قبل أن يصيب الكثيرين ممن لم يصل إليهم حتى الآن، أي المهم هو إنقاذ ما تبقى، ولنترك العدالة للسماء، ولنتغلب على عواطفنا، ولنكن قادرين على العفو وتقبل الذين أساؤوا إن قرروا الانضمام إلى ثورتنا وتخليصنا من هذا النظام المجرم.
لن تنجح ثورتنا إلا إذا كانت ثورة جميع السوريين بما فيهم العلويون. يجب أن لا يقف استعمال النظام لآلاف من العلويين الذين غسل عقولهم وأقنعهم أن مؤامرة تجري ضده لأنه قومي وممانع، واستغل فقرهم واستخدمهم في قمع المتظاهرين، يجب أن لا يقف حائلاً بيننا وبين إخوتنا العلويين. فهذا هو ما يريده النظام لتبقى الطائفة العلوية أسيرة له ومرتبطة به، والقوة العسكرية والأمنية في سورية مركزة في أيدي ضباط منها، ولا أمل بتغيير من دونهم، إلا عن طريق الحرب الأهلية والغزو الخارجي. يجب أن تحرص الثورة على اجتذاب العلويين وباقي الطوائف والقوميات السورية وأن نتناسى الماضي من أجل مستقبل أفضل نشارك كلنا في بنائه العلوي منا وغير العلوي.
صدقوني ليس العلويون أقل فقراً من باقي السوريين، إنما يلهيهم النظام بالشعور بالتسلط على الناس وخوف الناس منهم ليتخذهم جنوداً له، ليستمر في نهب خيرات البلد هو ومن معه من المنتفعين، ولتبقى الطائفة فقيرة وقليلة الثقافة بحيث يكون التطوع في الجيش والأمن مصدر الرزق الرئيسي لشبابها.
النظام لا يحترم العلويين ولا غيرهم ولا يحرص حرصاً حقيقياً لا على العلويين ولا على غيرهم، إنما هو نظام من أناس فاسدين يجمعون المال من حلال ومن حرام ولا يفكرون بأكثر من استمرارهم في السلطة ليدوم تمتعهم بالامتيازات التي أعطوها لأنفسهم، وما الطائفة العلوية إلا مطية لهم مسخرة لخدمتهم وحمايتهم، وهي بحاجة مثل باقي السوريين لتتحرر منه ولتشارك في بناء سورية بحيث تكون للجميع وتتكافيء فيها الفرص ويسود العدل ويتقدم الأصلح. العلويون بشر مثلنا، عندهم ضمائر مثلنا، ولهم آمال ومخاوف مثلنا، وهم شركاؤنا في هذا الوطن، ولا يمكننا المسير من دونهم، وبخاصة بعد أن تركزت القوة العسكرية والأمنية بأيديهم.
ثم علينا كسب الطوائف الأخرى للثورة من خلال تطمينهم أن ثورتنا لا تسعى إلى حكم ديني يتحكم فيه علماء الدين بالناس، إنما نريد حكماً مدنياً لا يعادي الأديان ويستطيع في ظله العسكري أن يؤدي صلاته علانية دون أن يقع تحت المراقبة والتحقيق، حكم يشجع على مكارم الأخلاق ويحترم شرائع كل طائفة أو دين في الأحوال الشخصية، حكم يطلق الحريات ويسمح للجميع بالمشاركة في صياغة سياسة البلد بالوسائل الديمقراطية، ولا يسمح باضطهاد أي فئة من السوريين بسبب دينها أو قوميتها أو غير ذلك.حكم يتساوى أمامه جميع السوريين فيكون لهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات نفسها لمجرد أنهم سوريون بغض النظر عن مناطقهم أو مذاهبهم أو أديانهم أو لغاتهم أو قومياتهم. السوريون عائلة كبيرة واحدة تتعاون من أجل حياة كريمة لهم ولأجيالهم القادمة.
حتى تنجح ثورتنا لا بد لها من الحرص على لاءاتها الثلاث: لا للعنف بجميع أشكاله، ولا للطائفية والحرب الأهلية، ولا للتدخل العسكري الأجنبي، فإن بقاء النظام على علاته أرحم للسوريين من أي من هذه الخيارات الثلاث، وكما يقول فقهاء الإسلام: الشر خيار، أي العاقل يختار أهون الشرين ولا يزيل المنكر بمنكر أكبر منه. وإن الاستمرار في ثورة سلمية تضم جميع السوريين وتتقبل من الدول الأخرى العون الذي لا يمس استقلال البلاد، وتترفع على أية أحقاد أو نعرات، هو كفيل إن شاء الله بسقوط هذا النظام ومجيء نظام أحسن منه وأرحم، لكن علينا أن لا نستعجل ولا نتثبط إن تأخر الفرج فإنه قادم وحتمي إن تواصلت ثورتنا ولم تفتر عزيمتنا.
16/10/2011
ويتبع >>>>>: الطائفية والثورة في سورية1
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3
التعليق: لدي توضيح حول حكم المحارب (أي قاطع الطريق)..
قال الكاتب: (هذا العفو الدنيوي لا يسقط عنهم الإثم والعقوبة في الآخرة، ولا يضيع حق من سُلب ماله أو عرضه أو أصيب بجرح أو قتل فرد من أسرته، بالتعويض المجزي والسخي، إنما يتم التعويض من مال الدولة، ويترك المسلحون الذين تابوا قبل أن يتم القبض عليهم دون ملاحقة حتى يتشجعوا على العودة إلى الحياة الشريفة ولا يتحولوا إلى أسرى لماضيهم ولجرائمهم التي ارتكبوها).
بالنسبة للعفو والتأثيم: العفو الذي منحه الله تعالى لقطاع الطرق مترتب على التوبة، والتوبة تمحو الذنب وإثمه في الآخرة...