طالت المدة كما توقعت ولم يسقط النظام في سورية، ويوماً بعد يوم يزداد قلقي على بلدي الحبيب وأمتي الغالية، ويكبر خوفي من المستقبل. يوماً بعد يوم تتصعد في سورية لهجة طائفية مرعبة تنذر بما لا يسر ولا يرضي.
كثيرون يظنون أن أمريكا ليست راغبة في التدخل العسكري في سورية لإسقاط النظام، وأنه لا أمل للسوريين بالتغيير إلاّ بمعونة دولية أمريكية بالدرجة الأولى. وقد أصبح من الواضح للجميع أن النظام السوري رغم ممانعته الشكلية للمخططات الإسرائيلية والأمريكية ورغم تعاونه مع إيران تعاوناً مزعجاً للدول الغربية فإنه يبقى في نظرهم أفضل من مستقبل مجهول وغير مضمون بالنسبة لهم وبالتالي هم لا يمانعون في بقائه لكن مع إجراء بعض الإصلاحات التي تهدِّيء خواطر السوريين وتعيد الاستقرار إلى المنطقة. لكني ما زلت لا أطمئن لنوايا أمريكا وإسرائيل نحو سورية، فهم لديهم مخطط استراتيجي يعتقدون أنه من خلاله يمكن أن تنعم إسرائيل بالأمان والرفاهية والسيطرة على المنطقة كلها لأجيال عديدة قادمة.
علينا الحذر, وأن لا نظن أنه عدو عدونا صديقنا في جميع الأحوال، فقد يكون عدو عدونا ألد أعدائنا، وقد يتعاون معنا ضد العدو المشترك لكنه يبقى عدونا يخطط للإيقاع بنا ويتحين الفرصة للإنقضاض علينا، لذا حتى لو كانت أمريكا معادية للنظام السوري فإنها أبداً لن تكون مخلصة للثورة والثوار إلا بمقدار ما يحقق ذلك لها مصالحها، وأمن إسرائيل على رأس تلك المصالح.
لذا إن تعذرت المحافظة على النظام السوري، أو إن حانت الفرصة المواتية، فإن أمريكا وإسرائيل سترجعان إلى خطتهما القديمة وهي تفتييت سورية ولبنان إلى خمس دول طائفية، وربما إلحاق أكراد سورية بكردستان العراق. الخطة تقضي بإقامة دولة علوية تضم الساحل السوري وطرابلس لبنان وحمص وحماة، وإقامة دولة مارونية في وسط لبنان، ودولة شيعية في جنوب لبنان ودولة درزية تمتد من السويداء إلى المناطق الدرزية في لبنان ويكون الجولان بعد تحرره جزءاً منها، وتبقى دمشق وحلب لتتكون منهما دولة أو دولتان سنيتان.
هذا التفتيت سيجعل إسرائيل دولة عظمى بالنسبة لما يحيط بها من دويلات يراد لها أن تكون دويلات متناحرة تنشغل بالصراعات والحروب فيما بينها، وقد تمارس إسرائيل يومها دور الحَكَم والمُصْلِح بعد أن كانت هي العدو الغاصب. لا تحسبوا أنني واهم، فقد أنجزوا خطتهم في تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وشيعية وسنية.. ولا يخدعنا بقاؤه متحداً فيدرالياً، فالعراق أبداً لن يكون دولة قوية خطيرة على إسرائيل كما كان من قبل.
قد لا يبدو هنالك مؤشرات واضحة على سعي أمريكا وإسرائيل إلى تقسيم سورية ولبنان قريباً، لكن يجب أن لا يخدعنا ذلك فهم ينضجون طعامهم على نار هادئة كما يظنون. العراق لم يبدأ تقسيمه مع الغزو الأمريكي عام 2003، إنما بدأ منذ فرضوا مناطق الحظر الجوي فوق شماله وجنوبه عام 1991، لتترسخ فكرة الدولة لدى كل من أجزائه الثلاثة.
وقد يقول قائل وما الضرر من تشكيل أقاليم متعددة تتحد في دولة فيدرالية، مثلما هي الولايات المتحدة الأمريكية عبارة عن مجموعة دول متحدة فيدرالياً؟ لو كان التقسيم سيتم بالتراضي والتفاهم ودون ضحايا وعذابات وتبقى المودة بين الطوائف قائمة لقلنا لا ضير من ذلك كبيراً، وبخاصة أن الدولة المتحدة إندماجياً لم تحقق شيئاً أمام إسرائيل. المشكلة هي في حرصهم على ملء نفوس طوائف السوريين بالحقد والعداء تجاه بعضهم بعضاً ليكون التقسيم حقيقياً، لا مجرد تقسيم إداري قد يفيد أكثر مما يضر.
حتى يتم التقسيم في العراق أفسحوا المجال للموالين لإيران من الشيعة وللزرقاوي وغيره من التكفيريين كي يقتلوا كل المودة والإخاء الذين كانا سائدين ما بين السنة والشيعة في العراق. يقال إنه كان في العراق قبل الغزو مليونان من الأسر مكونة من تزاوج سني شيعي, وهل مع التزواج يكون هنالك طائفية؟ لقد أعطى الأمريكان إيران الفرصة لتعبث بالعراق كما تشاء لا عن ضعف منهم أو غباء، إنما هم جاؤوا لتقسيم العراق وتقسيم الشعب العراقي، وهذا الهدف مشترك مع إيران التي عانت من العراق ما عانت في حرب طويلة أرهقتها وبددت طاقاتها، ففي تقسيم العراق أمان لإيران، وفي إنشاء دولة شيعية في العراق ضمان لاستمرار النفوذ الإيراني في العراق إلى آجال لا يعلمها إلا الله.
إذن التقت العدوتان اللدودتان على أهداف مشتركة في العراق، فكانت الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، وكان القتل على الهوية من الطرفين، ومارسوا في حق بعضهما بعضاً أشد مما مارسه الصرب مع المسلمين في البوسنة. ومن لا يصدق ما عليه إلا أن يسأل بعض اللاجئين العراقيين في سورية ليسمع منهم حكايات لا تخطر بالبال من الفظائع والعنف الطائفي الذي وقع ومازال يقع في العراق. لم يكن العراقيون طائفيين، ولم يكن حكم صدام حكماً سنياً يهمش الشيعة، بل كان حكماً قومياً همش الأكراد مع أنهم عراقييون من آلاف السنين لمجرد أنهم ليسوا عرباً، وكان حكماً اعتمد على عشائر معينة يضمن ولاءها وهمش الباقين سنة كانوا أو شيعة، وقد كان الشيعة في حكومات صدام وفي جيشه يشكلون أكثر من النصف. نعم لم يكن العراقيون طائفيين لكن قلة آثمة منهم استطاعت أن تضرب الأسافين العميقة بين السنة والشيعة هناك، وأن تخلق في النفوس عداوات وأحقاداً لا يعلم مداها إلا الله، ولا يعرف العراقيون كيف ومتى سيتجاوزونها ليعودوا شعباً واحداً متآلفاً.
من أجل تقسيم سورية ولبنان ستدعم أمريكا بعض الحاقدين الموتورين من أبناء السنة ومن العلويين وغيرهم من الطوائف السورية لِتُدْخِلَ السوريين في حرب أهلية تطول السنين العديدة وتقضي على الأرواح الكثيرة بحيث يصبح التقسيم أمنية الجميع ووسيلة الخلاص الممكنة.
هذه ليست أوهام، نحن نواجه أعداءً لا يرحمون، ومتى كان الصهاينة رحماء؟ إن الأمر بالنسبة لهم مسألة وجود، وهم لا يتورعون عن شيء يضمن لهم البقاء في أرضنا والتمتع بخيرات بلادنا. أمريكا يتنافس رؤساؤها في إرضاء اللوبي الموالي لإسرائيل هناك ولا مانع عند الكثيرين من سياسييها أن يكسبوا تأييد اليهود وأموالهم وأصواتهم طالما أن الثمن سيكون من خيرات بلادنا وعلى حسابنا نحن.
كثيرون من السوريين من أبناء الطوائف المختلفة يكررون تأكيدهم أن النظام لن ينجح في خلق فتنة طائفية يكون فيها نجاته من السقوط. لو نجح النظام في تحويل ثورتنا إلى فتنة طائفية سنية علوية فسيطول عمره وقد ينتصر على الثورة ويقضي عليها. فلو نشبت الفتنة الطائفية على أساس ديني هل سينضم أبناء باقي الطوائف السورية الأخرى إلى السنة أم إلى العلويين؟ لا أعتقد أن الجواب صعب علينا معرفته.
عندما تثار القضية دينية طائفية وتكفيرية وتخوينية، هل سيطمئن المسيحيون على مستقبلهم مع السنة الذين قد يسعون إلى دولة دينية على النمط الإيراني أو الطالباني؟ أم سيكون أمانهم مع النظام والطائفة العلوية التي لن تنشيء دولة إسلامية ولن تكون قادرة على اضطهادهم أو تهميشهم، لا عن طيب أخلاق بل لأنها بحاجة إليهم للوقوف في وجه السنة؟
هل سيختلف موقف الدروز والإسماعيليين وغيرهم من الأقليات الدينية والكثير من السوريين الغير مؤمنين بالأديان الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين أو يساريين، هل سيختلف عن موقف المسيحيين؟ لو كنت واحداً منهم لاخترت الوقوف مع نظام ضعيف مستعد أن يقدم لي الامتيازات والضمانات لأقف معه في معركة البقاء بينه وبين السنة، هل سأكون مخطئاً حينها أم سأكون ذكياً ومدركاً لمصلحتي؟
لو تحولت الثورة إلى ثورة طائفية فسينقسم السوريون إلى جبهتين أولاهما السنة في مقابل جبهة متحدة من العلويين والدروز والمسيحيين والاسماعيليين واللادينيين وغيرهم. عندها سيكون عند النظام شبيحة من الطوائف كلها ولن يكون لديه أزمة رجال كما هو الحال الآن، والنظام لديه من الأسلحة الثقيلة والخفيفة ما يكفي وقتها لسحق الانتفاضة السنية، ولن يأتي أحد لإنقاذنا بل سيأتون لتقسيمنا كما هو حلمهم الذي عندها سيصبح حلمنا نحن أيضاً.
إن أخطر غلطة وأثمن هدية يمكن للثوار أن يقدموها للنظام هي تحويل الثورة إلى نزاع طائفي، فالنظام منذ الأيام الأولى للثورة حاول جاهداُ أن يثيرها حرباً طائفية بين السنة والعلويين. لأن الحرب الطائفية ستجعل الطائفة العلوية لا بديل لديها عن الاستماتة في الدفاع عن النظام حيث وقتها يكون الدفاع عن النظام دفاعاً عن الطائفة ذاتها، بينما الآن ما يزال من الممكن أن تنقلب الطائفة كلها أو بعضها على النظام وتتبرأ منه ، هذا إن لم تشارك في الثورة مشاركة فعلية. النظام يخشى أن تتخلى الطائفة العلوية عنه ويبذل كل وسعه لربط مصيرها بمصيره، وإن أي توجيه للأمور في سورية باتجاه طائفي يخدم النظام لأبعد الحدود.
ويتبع >>>>>: الطائفية والثورة في سورية2
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3)