الطائفية والثورة في سورية2
ويبقى موضوع مُهْدَر الدم الذي على أساسه يستبيح البعض قتل من يعتبره مرتداً أو مشركاً. صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دماء ستة من المشركين عندما فتح مكة، وأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، لكن الذي يجب الانتباه له أن ذلك لم يكن منه صلى الله عليه وسلم بمثابة فتوى دينية، إنما كان حكماً قضائياً، بوصفه صلى الله عليه وسلم الحاكم الأعلى، وبوصف هؤلاء الستة رعايا تحت سلطته، بعد أن فتحت مكة وصارت جزءاً من دولة المسلمين.
الجرائم التي استحق أولئك أن تهدر دماؤهم بسببها جرائم قديمة وسابقة على فتح مكة، ومع ذلك لم يصدر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه عليهم إلا عندما صاروا من رعايا دولته وضمن سلطته كحاكم لا كمشرع ومفتي، لذا يجب أن لا يُهْدَرَ دم أحد إلا بحكم قضائي يستوفي شروط القضاء العادل النزيه، فمن المعروف لكل متفقه أن المسلم مأمور إن هو رأى مسلماً آخر يزني أن يستر عليه وأن ينصحه، لا أن يقتله، مع أن الحكم الذي عليه الفقهاء هو قتل الثيب الزاني. هؤلاء الفقهاء أنفسهم، لا يرون استحقاق الثيب الزاني للقتل بمجرد الزنا، بل لا بد له من المجاهرة والإقرار المتكرر، أو أن يرتكب الفاحشة أمام أربعة رجال يرون الفعل الجنسي بأعينهم، ثم يشهدون عليه أمام القاضي. الدم البشري محرم ولا يهدر بفتوى عالم أو طالب علم، إنما إهداره يعني حكماً بالإعدام لا يحق لأحد إصداره إلا القاضي المختص.
بعد هذه الملاحظات لا أجد عذراً لمن يقتل غيره بحجة الشرك أو الردة أو غير ذلك، وعلينا الحذر من التورط في الهرج وهو فوضى القتل وإزهاق الأرواح دون حق. وعلى من أراد الجهاد من الشباب أن يتقي الله فلا يرتكب الجرائم التي سيحاسبه الله عليها وهو يظن أنه إنما يجاهد في سبيل الله، وعلينا الحذر من أن تدفعنا مشاعر الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام إلى أن نتبنى فتاوى تبيح لنا قتل الناس بسبب معتقدهم فإننا نستطيع أن نخدع أنفسنا لكننا لا نستطيع أبداً أن نخدع الله، وأول شيء يقضى فيه يوم القيامة الدماء، ولئن كان الأصل في شريعتنا في كل شيء الإباحة، إلاّ ما ثبت تحريمه، فإن الأصل في الدماء الحرمة إلاّ ما ثبت استحقاقه للقتل، ولابد من ثبوت ذلك ثبوتاً قوياً، وإلاّ فإنه حتى الحدود تُدْرأ بالشبهات، فتعطل، ولا تقام على شخص إن كان هنالك ذرة شك في أنه استحقها، رغم ما للحدود من أهمية وتعظيم، فكيف بقتل الناس عند الفتنة والفوضى؟
من أحلام بعض الشباب المسلم أن يعيش في دولة إسلامية، تكون أخلاق الناس فيها إسلامية، وقوانينها إسلامية، والسيادة فيها للمسلمين. ولا يمكننا أن نصادر أحلام الناس، فهم لهم الحق في أن يتمنوا ما يحبون وما يعتقدون أن فيه سعادتهم، لكن الذي على الشباب المسلم أن ينتبه له، هو أن الظروف حالياً مختلفة عن الظروف التي عاشها المسلمون، إبان عزة الإسلام والمسلمين وتغلبهم على غيرهم من الشعوب، وفتحهم لبلدانهم، حيث صار كل ما في تلك البلاد المفتوحة غنيمة للمسلمين الفاتحين، وكان على أصحاب الأرض الأصليين الذين يزرعونها أن يدفعوا أجر تلك الأرض إلى خزينة الدولة الإسلامية، وكان يسمى الخَراج, في تلك الظروف فرض المسلمون المنتصرون على غيرهم شروطاً يرويها لنا التاريخ، كانت من منطلق الغلبة والانتصار على المغلوبين والمهزومين، مع أن المؤرخين المنصفين يشهدون أن التاريخ ما عرف فاتحين أرحم من العرب.
عندما نقرأ التاريخ والشروط التي فرضها المسلمون على غيرهم، نظن أن هذه الشروط أحكام لا يجوز مخالفتها، وبالتالي نحلم، وبكل نية طيبة، أن نعيد هذا التاريخ، ليعود دين الله هو الدين الظاهر على الدين كله، لكن هنالك في التاريخ موقف أقرب إلى موقفنا هذه الأيام، وهو عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من مكة إلى المدينة. يومها لم يدخلوا المدينة غزاة فاتحين منتصرين، بل استقبلهم أهل المدينة كمهاجرين يشاركونهم العيش في المدينة، ويجدون فيها الأمان الذي افتقدوه في مكة. يومها كان في المدينة كثير من أهلها الذين أسلموا إما إسلاماً مخلصاً وإما نفاقاً من الخشية، وكان فيها الكثيرون من أهلها الذين لم يدخلوا في دين الله وكانوا ما يزالون مشركين مثل باقي العرب في ذلك الزمان، وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية تعيش فيها من زمن بعيد، وانضم المسلمون المهاجرون إلى كل هؤلاء وتكونت دولة يرأسها النبي صلى الله عليه وسلم.
يومها كتب النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة اتفق فيها أهل المدينة بكافة أطيافهم وأديانهم على ما يمكن اعتباره، أول دستور مكتوب في التاريخ، ينظم حياتهم المشتركة ويبين حقوقهم وواجباتهم. لم يكن في وثيقة المدينة المنورة أية شروط فيها تمييز للمسلمين على غيرهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار، وتجلت في تلك الوثيقة مفاهيم العدالة والمساواة للجميع، أي ما نعبر عنه هذه الأيام بالمواطنة، حيث للجميع حقوق متساوية في البلاد.
واليوم بعد قرون من التخلف والهزيمة وجدنا أنفسنا في دول أكثرها كان نتيجة تقسيم المستعمرين لبلادنا، حتى أن البلاد العربية تتميز بالحدود المستقيمة المرسومة بالمسطرة لا التي تتبع تضاريس طبيعية متعرجة. في هذه الدول التي خلقها الاستعمار الأوربي وجدت طوائف وأديان وقوميات، لكن كانوا جميعاً مغلوبين بالتساوي أمام المستعمرين الأوربيين، ثم استقلت كثير من تلك البلاد استقلالاً منقوصاً وأحياناً كاملاً، ووجدت الطوائف والأعراق في سورية نفسها شريكة في دولة ليس لإحداها السيادة فيها على الأخرى.
قد لا يعجبنا الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه بعد قرون من العزة والغلبة، لكن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً ولا يعطينا أي حق في تجاوز حقوقنا، أو عدم إعطاء باقي السوريين حقهم في المواطنة الكاملة معنا كسوريين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. صحيح أن المستعمر الأوربي هو الذي رجح كفة بعض الطوائف وأفقد المسلمين السنة الوضع الممتاز الذي كان لهم على مدى قرون عديدة، وصحيح أن ذلك كان فيه نوع من الظلم للسنة، وربما لم يكن مشروعاً، لكن لا بد من احترام الوضع الجديد الذي نتج عنه. أُشَبِّه الأمر بزواج تم بالإكراه ومشكوك في صحته وشرعيته، أو زواج بين رجل وامرأة يكتشفان بعد سنين طويلة وانجاب ذرية كثيرة أنهما أخ وأخته وزواجهما باطل، ومع ذلك تحترم حقوق أولادهما بالنسب والميراث، وتحترم كل الحقوق كما لو كان الزواج شرعياً تماماً. زواج بالإكراه، آثم من فرضه على امرأة مسكينة، لكن ما ينتج عنه من قرابات وحقوق وواجبات هي أمر واقع لا مجال لإنكاره. وهكذا علينا القبول بالوضع الجديد الذي يماثل وضع المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، وأن نتقاسم الحياة بالعدل والمساواة مع باقي السوريين بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم.
سورية لكل السوريين، وستكون الدولة فيها دولة السوريين جميعهم، الذين، إن ارتضوا دون إكراه، أن يُحَكِّموا بعض القوانين الشرعية أو كلها، فهذا من حقهم، وإن رفض أكثرهم ذلك، وقع الإثم على الذين رفضوا، وبرأت ذمة الذين دعوا وطالبوا، ولن يلومهم الله. ولا يحق لبعض السوريين فرض وجهة نظرهم على الآخرين، إلا إن كانت فكرته أو رغبته مقبولة من الغالبية، بشرط أن لا تناقض الدستور، الذي يضمن حقوق جميع السوريين، ويعتبرهم مواطنين متساوين، مثلما اعتبرت وثيقة المدينة أهلها مواطنين متساوين، رغم اختلاف معتقداتهم الدينية وأصولهم العرقية.
ويجب أن لا نحزن لهذا الوضع الجديد فالبشرية في عصر صارت فيه الأرض قرية واحدة، وتداخلت الشعوب والثقافات، ولم يبق هنالك دولة واحدة صافية عرقياً أو دينياً. وحتى إسرائيل التي تحلم بدولة يهودية عليها أن تقبل أن غير اليهود فيها لهم الحقوق ذاتها، ومواطنون تماماً، كما إن اليهود فيها مواطنون.
لن تنجح ثورتنا إلا إن كانت ثورة كل السوريين ومن أجل كل السوريين، وسيكون مصيرها الإخفاق والفشل إن هي تحولت إلى ثورة طائفية.
ويتبع >>>>>: الثورة السورية بين العنف واللاعنف1
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3)
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3)