المجتمعات الحية المعاصرة تجيد مهارات مداواة جراحها ولأمِها، والمتأخرة المتدحرجة إلى الوراء، تجتهد في تفتيق جراحها، واستحداث جراح جديدة، وتحويل كل جرح إلى دملة أو دمبلة محقونة بالصديد والأقياح الإتلافية المدمرة للحياة، أو الوائدة لمعانيها وعناصرها. وبين الالتئام والتفتيق مسافة فارقة تحدد قدرات الانطلاق والتواصل مع الأيام.
إن من طبائع السلوك البشري، أن البشر عندما يتحرر من أية قوة قاهرة ، يقف أمام نفسه ويسائلها عن هوية ذاته، فترى ظهور الهويات والمسميات في زمن الحريات. وهذا ينطبق على جميع الشعوب والمجتمعات، لكنه لا يعني التمايز والتناحر والتصارع في ميادين الهيمنة والقوة وفرض الإرادات، لأن في ذلك تجسيد لسلوكيات الحالة الضاغطة، التي كانت قائمة قبل نيل الحرية ومسؤولية الشروع بالحياة. وفي هذه الإنتقالة تعمد المجتمعات إلى إرساء عقد اجتماعي، يراعي مصالحها ويحافظ على قوتها وسلامتها الوطنية، ومسيرتها المتواصلة في التقدم والبناء.
وهذا ما يتحقق في الدول المتقدمة، حيث تتوافق الإرادات حول مصلحة عامة تستدعي مسؤولية، ودور الجميع في الحفاظ عليها، وتحقيق أسباب سلامة الوجود الوطني وتظافره. بينما المجتمعات المتأخرة، يأخذها جهلها الحضاري، وأميتها الفكرية والسياسية نحو انزلاقات خطيرة، تتسبب بتداعيات فظيعة ومدمرة لوجودها كافة، حيث يميل البشر المتحرر من قيود العبودية، إلى تأسيس حالات استعباد واسترقاق جديدة، ذات محاور تدميرية للذات والموضوع.
فيدخل المجتمع في تناحرات متنوعة الدواعي والمسميات والتحالفات، المتناسية لمنطوق المصلحة العامة الجامعة، وتبدأ كل المحاور بالعزف على أوتار الجراح والمآسي وتأجيجها، وتحويل المجتمع إلى بركة ملتهبة في مستنقعات الغفلة والتجهيل المروع للناس، والاندفاع الشرس في تضعيفهم وتحويلهم إلى موجودات تابعة، وخانعة لإرادة جاهلة منفعلة ومحكومة بقدرات أخرى تسخرها لمصالحها العليا.
فالمحاور الصغيرة في أي مجتمع بشري لا يمكنها أن تكون وتتحقق، من غير التفاعل الوطني المشترك مع المحاور الأخرى، أما إذا انحرفت عن هذا المنحى وأرادت أن تتناحر، فأنها لا يمكنها تحقيق ذلك من غير التواصل مع قوة أخرى خارج المجتمع، وبتنامي الصراع تصبح جميع المحاور ممثلة لقوى خارجية طامعة في المجتمع، وتساهم في تفتيق الجراح لأن في ذلك تحقيق أعظم لمصالحها.
وفي هذا المعترك الانقراضي، لابد لحكماء المجتمع وقادته الحلماء، أن يؤسسوا لمنهج مداواة الجراح، ومكافحة محاولات تفتيقها وتقييحها، من قبل الذين صار وجودهم مرهونا بالويلات والتداعيات العاصفة بالمجتمع.
ولا يمكن لمجتمع أن يبقى ويتعزز، إذا عبثت فيه ديناميكية تفتيق الجراح، وحشوها بجراثيم التفاعلات السلبية ما بين البشر.
فهل ستتحقق المساهمة بتطبيب الجراح بدلا من نتئها؟!
واقرأ أيضاً:
الوطن ينتصر / التعمير النفسي / صناعة الفرح