دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية1
تحريم الربا وفرض الزكاة شيئان نافعان كان يمكن للبشرية أن تصل إليهما بنفسها، لكن الخالق الرحيم أراد أن يحمينا معشر المؤمنين به والطائعين له من أن نتعلم من كيسنا -كما يقول المثل- ومن أن ندفع الأثمان الباهظة قبل أن نكتشف تلك الحقائق، فشَرَّعها في دينه وفرضها علينا وجعل التزامها عبادة يختبر بها طاعتنا له فيثيبنا عليها، ولأن أهواءنا قد تعمي أبصارنا فنتجاهل أضرار بعض الممارسات وننغمس فيها بقصد المنفعة الشخصية العاجلة لنقود المجتمع كله إلى الأزمات والمعاناة. الفرائض والتحريمات في دين الله لها غايتان لا تتعارضان، الأولى: أنها تعبدية لاختبار طاعة المؤمنين لربهم وعدم استكبارهم عن تنفيذ أوامره، والثانية: إصلاح أحوالهم المعيشية، ولنأخذ مثالاً الخمر والميسر.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} البقرة219، ونحن نعلم من السيرة أن هذه الآية لم تحرِّم الخمر والقمار مع أنها بينت أن أضرارهما أكثر من منافعهما، ونعلم أن كثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استمروا في تعاطي الخمر ولعب القمار رغم الآية الكريمة لأنهم كانوا مدمنين، والمدمن يجد صعوبة في الإقلاع عما أدمن عليه، وقد مضى زمن ليس بالقصير قبل أن تنزل آية أخرى تحرم الخمر والميسر بشكل نهائي وقاطع.
كان الناس في حاجة إلى التحريم الذي يفرضه ربهم الرحمن عليهم دون انتظار أن يصلوا إليه يوماً ما بأنفسهم، وذلك من أجلهم ومن أجل مصلحتهم الدنيوية قبل مصحلتهم الأخروية. والله لم يحرم علينا إلا الخبائث التي أضرارها أكبر من منافعها، واعتبر التزامنا بهذا التحريم الذي هو من أجلنا ولحمايتنا، عبادة له يعطينا عليها الجنة، مع أننا إن كنا عقلاء سنمتنع عن هذه المحرمات من أنفسنا لأننا مفطورون على الحرص على ما ينفعنا. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف157.
لكن من رحمة ربنا ولثقته بنا وبحكمتنا لم يكثر علينا من الفرائض والتحريمات، بل سكت عن الكثير من الأمور وتركها لنا ولحكمتنا، أي الكثير من الأمور بقيت معلقة في مرحلة {وإثمهما أكبر من نفعهما} حيث تفرض علينا عقولنا بما جبلت عليه من حكمة أن نبتعد عنها دون أن يكون وقوعنا فيها مدعاة للعقاب في الآخرة، إذ تكفينا العقوبة الحتمية التي تقع علينا عندما نرتكب تلك الأمور التي ضُرُّها أكبر من نفعها، فالذي يدخن التبغ من أجل المتعة عقوبته حتمية من خلال الضرر الصحي الذي يصيبه نتيجة التدخين دون أن يكون للتدخين حكم شرعي من تحليل وتحريم.
نعود إلى قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} لنتبين أصلاً عظيماً من أصول ديننا لم ينتبه له القدماء وهو مجيء لفظ إثمهما كضد لنفعهما، أي جاء لفظ الإثم مكان لفظ الضر حيث الضر هو الذي ضد النفع، وهذا يعني أن الإثم والضّر يحل كل منهما محل الآخر في الإسلام، وبالتالي لم يحرم علينا ربنا إلا ما هو ضار لنا ولا يمكن أن يحرم علينا شيئاً نفعه أكبر من ضره. وهكذا نجد الإسلام دين الفطرة والعقل والمنفعة بخلاف باقي الأديان التي قد تمتحن الناس بتحريمها عليهم بعض ما ينفعهم أو بفرضها عليهم بعض ما يضرهم.
ولا عجب إن لم نجد في القرآن والحديث الشريف مفهومي الخير والشر كمفهومين مطلقين كما هو الحال في الأديان والمعتقدات الأخرى. لا شيء هو خير أو شر بشكل مطلق، بل هنالك ما هو خير لنا من حيث غلبة المنفعة لنا فيه على المضرة وهنالك ما هو شر لنا من حيث غلبة الضرر فيه لنا على النفع. هنالك خير وشر بالنسبة لنا نحن البشر حيث الخير هو النفع وحيث الشر هو الضرر، أما بالنسبة إلى الله فالأمور كلها متساوية لأنه لا شيء قادر على نفعه ولا شيء قادر على ضره فهو الصمد الغني القدير.
يقول ابن حجر في فتح الباري: واخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلاتعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وله شاهد من حديث سلمان اخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود. وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر، أخرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسياً) مريم: 64، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البزار: إسناده صالح.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «الحَلالُ بَيِّنٌ، وَالحَرامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ منَ الناسِ. فمنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ: كراعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه. ألا وإِنَّ لِكلِّ مَلكٍ حِمى، ألا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أرضِهِ مَحارِمُه. ألا وإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كله، أَلا وهِيَ الْقَلْبُ». وقال أيضاً: {الحلالُ بيِّنٌ، والحرامَ بينٌ وبينهما أمورٌ مُشتبهة. فمَن ترَكَ ما شُبِّهَ عليهِ منَ الإثمِ كان لِما استبانَ أتْرَكَ ومنِ اجْترأَ على ما يَشُكُّ فيه منَ الإِثمِ أوْشَك أن يُواقِعَ ما اسْتبانَ. والمعاصِي حمى الله، مَن يَرْتعْ حَولَ الحِمى يُوشِكْ أن يُواقِعَه}.
وقال تعالى: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً...} المائدة3
أي الدين كامل بما هو بَيِّنٌ من حرام وحلال بموجب النصوص القرآنية والحديثية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وما سوى ذلك لا داعيَ للبحث عن حكم شرعي له إنما هو مما سكت الله عنه رحمة بنا، وتركه لحكمتنا وعقولنا التي ركب فيها حبنا لما هو نافع وكرهنا لما هو ضار، وهذا ما يجب أن نتقيد به إن أمكننا أن نقيم دولة إسلامية صافية دينياً. أي ندعو الناس إلى الحلال البَيِّن وننهاهم عن الحرام البَيِّن ولا نقحم الدين فيما سوى ذلك من أمور مستجدة أو قديمة سكت عنها الشرع وتركها لنا نختار فيها الخير ونتجنب الشر.
روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنَّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرَّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ}. وهكذا يكون علماء الدين ورثة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أمور الكتاب ويكون علماء الدنيا من طب ونفس واجتماع واقتصاد وسياسة وغيرها من العلوم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الحكمة. رسالته تألفت من الكتاب والحكمة وورثته صنفان الأول يرث دوره في تبليغ الكتاب والثاني يرث دوره في النهوض بحياة الأمة وقدراتها في مجال الحكمة.
صحيح أن هنالك الكثير من أمور الحكمة صارت من الكتاب عندما فرضها أو حرمها الله ورسوله بشكل بيِّن كالخمر والميسر والربا، لكن باقي الأمور الحياتية التي لم يرد فيها نص (آية أو حديث شريف) قطعي الثبوت قطعي الدلالة تبقى في دائرة العفو المتروك لعقولنا وحكمتنا وعلمنا واكتشافنا، دون تحليل أو تحريم. أي ما ثبت بالدليل القطعي أنه فرض أو أنه محرم هو الذي نأثم إن خالفناه أما ما سوى ذلك فعقوبتنا عليه تكمن في العاقبة غير السارة لأفعالنا غير المناسبة، ولا دور لعلماء الشريعة في الإفتاء فيها.
وسيكون على علماء الدين القيام بما يسمى تحقيق المناط مثل التأكد من أن عملية مالية مستجدة ليست صورة من صور الربا المحرم كالتَّوَرُّق الذي تمارسه المصارف الإسلامية، ومثل التأكد هل المسابقات التي تجريها بعض الجهات عن طريق قيام الناس بالاتصال الهاتفي بها اتصالاً يكلفهم أضعاف الكلفة الحقيقية وتستوفي هذه الجهة الجزء الأكبر من هذه الرسوم بعد أن تقتطع شركة الهاتف رسوم الاتصال وعمولتها على تحصيل الأموال التي تذهب إلى الجهة المنظمة لهذه المسابقة والتي في النهاية تجري سحباً أو قرعة ليفوز أحد الذين اتصلوا بجائزة كبيرة واضح أنها تكون من المال الذي جمعته هذه الجهة من المتصلين ليبقى لها ربح كبير، فيبحث العلماء هل هذه المسابقة صورة من صور الميسر والقمار المحرم أم لا.
سيسهر العلماء على تطبيق الشريعة كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يقوم الفقهاء بتوسيعها لتغطي كل شأن من شؤون الحياة وتعطيه حكماً شرعيا يكون بالضرورة حكماً اجتهادياً الغالب أن يختلف فيه الفقهاء وتتعدد أحكامهم تعدداً يحير الناس هل الأمر حلال أم حرام.
وهذا يعني أن دور علماء الدين في الدولة الإسلامية يجب أن يبقى محصوراً في تعليم الناس دينهم وحثهم على الالتزام بما ثبت أنه حلال بَيِّن أو حرام بين، دون أن يبحثوا عن حكم شرعي لكل أمر، فالخمر والميسر بين الله أن أضرارهما أكبر من منافعهما لكن تركهما دون حكم شرعي يحرمهما مرحلة من الزمن ريثما تم إعداد الناس لتحريمهما بحكم أنهما مما تدمن النفوس عليه من عادات يصعب عليها تركه بمجرد أمر ينزل حتى لو كان من رب العالمين. وأعطي مثالاً التدخين مرة أخرى حيث يكون دور علماء الدين بخصوصه هو نصح الناس وتوعيتهم لا البحث عن حكم شرعي بتصنيف التدخين على أنه حرام يأثم من يقع فيه إثماً دينياً.
هذه ليست دعوة إلى التدخين لكنها دعوة لحصر دور علماء الدين ودور الشريعة الإسلامية في ما ثبت تحريمه أو فرضيته ثبوتاً قاطعاً دون أن نقيس ما يستجد على ما ذكر في القرآن والحديث، بل نتركه خارج دائرة الحلال والحرام، أي خارج دائرة الدين لنكون نحن أعلم بأمور دنيانا. وهذا يعني تحرر الدولة الإسلامية من هيمنة رجال الدين عليها وتدخلهم في كل صغيرة وكبيرة فيها بحجة أنهم هم من يعلم حكم الشرع فيها.
14/06/2012
ويتبع >>>>>: دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية3
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5