كانت تراودني فكرة أن ندعو هذا الأسبوع لـ"جمعة العقل" بحيث تكون جمعة مختلفة شكلا وموضوعا، فمثلا يكون مطلوبا من المصريين أن يجلسوا في بيوتهم ويهدءوا تماما ويتنفسوا بعمق ويحاولوا التخلص من آثار التوتر والتشنج والعصبية والإثارة وكل الانفعالات السلبية والحادة التي تعرضوا لها في جمع الغضب والرحيل والقصاص والمواجهة والإنذار والخلاص وقندهار وغيرها. وكل ماهو مطلوب في جمعة العقل أن نترك فرصة لعقولنا أن تعمل بعد أن عطلناها شهورا طويلة وأطلقنا العنان لصيحات الغضب وخطابات الكراهية والعنصرية والعنف والتحريض.
أشعر أن العقل قد وحشني، إذ نادرا ما أستمع إلى خطاب فيه عقل أو تعقل أو واقعية أو موضوعية أو عدل أو إنصاف أو توازن أو نقد إيجابي أو نقد للذات، بل كل ما أراه هو سب وقذف وتشويه وإسقاط وإزاحة وإقصاء وتسفيه وتخوين وتكفير.
إذن ما المانع أن يصحو العقل يوم جمعة حيث الهدوء والاسترخاء والراحة والتقاط الأنفاس، بشرط أن تتوقف البرامج الحوارية المثيرة للقلق والتوتر، وتحتجب الصحف اليومية والأسبوعية، ويعود الناس إلى أنفسهم ويتأملوا داخلهم ويجروا عملية جرد وطني وأخلاقي ليعرف كل شخص أين يقف وماذا فعل، وهل كان منطلقا في قوله وفعله من المصلحة العليا للوطن أم منطلقا من المنافع الشخصية والصراعات الأيديولوجية والإنتماءات الحزبية أو الدينية، وكيف أثر بقوله أو فعله في الحالة الراهنة التي تعيشها مصر سياسيا واقتصاديا، ثم يسأل نفسه عن مدى رضاه عما حدث منه شخصيا وإمكانية تغيير آرائه ومواقفه في الأيام التالية.
وبينما أنا غارق في هذا الحلم الرومانسي (خاصة أن هذه الجمعة توافق يوم 15 فبراير أي اليوم التالي لعيد الحب) فوجئت بدعوات لعدة أحزاب إسلامية لجمعة "معا ضد العنف"، فقلت لنفسي لا مانع، هي في نفس الاتجاه ونحو ذات الهدف، وتمنيت لو استطعت المشاركة في هذه الفعالية وتخيلت أنني أقف في الصف الأول للحشد أحمل في يدي باقة من الزهور وفي اليد الأخرى لوحة فيها مجموعة صور لرموز مصر في السلطة والمعارضة من كافة التيارات، وبالمثل يفعل كل شخص في هذا التجمع المهيب، أي أننا أمام مليون باقة زهور ومليون لوحة لرموز مصر نقول لشعبنا الطيب ولكل شعوب العالم هانحن عدنا يدا واحدة مرة أخرى، وها نحن نمسح غبار العنف والتعصب والعنصرية والكراهية، وهانحن نعيد للثورة المصرية بياضها وسلميتها وتحضرها ورقيها، ها نحن نحمل الزهور رمزا للحب ونحمل صور قادتنا وزعماءنا باحترام لهم جميعا على اختلاف توجهاتهم ولا نخون أحدا ولا نكفر أو نفسق أو نحقر أحدا منهم.
وتخيلت أن يخطب الجمعة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر (باعتداله ووسطيته وطيبته وسماحته)، وبعد صلاة الجمعة يلقي البابا موعظة للحاضرين ترق لها القلوب، ثم تتوالى الكلمات على المنصة لكل رموز وقادة مصر في الحكومة والمعارضة بحيث يخصص لكل شخص 10 دقائق يتحدث فيها عن رؤيته لبناء مصر الحبيبة، وتستمر هذه الفعالية حتى المساء حيث يحمل الجميع الشموع ويتجهون إلى ميدان التحرير ليصلوا صلاة الغائب على أرواح الشهداء ويقف القادة والزعماء في الصينية الوسطى للميدان وقد تشابكت أيديهم ويعاهدون الشعب المصري الطيب الصبور على وقف حملات التشهير ووقف خطابات الكراهية والتحريض ونبذ ووقف كل أعمال العنف أيا كان مصدرها واحترام قيم الديموقراطية والشورى والعمل عبر وسائلها المحترمة من أجل الإصلاح والتغيير بكل الطرق السلمية، وتنتهي جمعة العقل بآيات من القرآن الكريم وفاصل من التواشيح بصوت الشيخ سيد النقشبندي ثم آيات من الإنجيل تتلوها ترانيم وأناشيد كنسية، وأخيرا فاصل من الأغاني الوطنية، ثم ينصرف الجميع إلى بيوتهم ليهنئوا هم وجميع المصريين بحالة من الأمان والسكينة وينطلقوا في اليوم التالي إلى العمل والبناء.
ولكن ما حدث على أرض الواقع اختلف كثيرا عن الحلم، إذ بدأت جمعة "معا ضد العنف" بخطبة الجمعة، والتي دارت كلها حول التحريض والتهديد بالعنف، وتشويه المعارضين ووصفهم بالمخربين، وتصوير الصراع السياسي الدائر في مصر الآن على أنه حرب لم تضع أوزارها بعد، والإعلان عن تأجيل العتاب للإخوان حتى تضع الحرب أوزارها لأن الحال الآن هو حال اصطفاف في معركة مصير، وقد أعلن خطيب الجمعة أنه ينتمي إلى قبيلة الإسلاميين وأن الناس كلها تعرف عن هذه القبيلة كيف يكون غضبها وأنها إذا قالت فعلت، وإذا غضبت كشّرت، ويعرفون تاريخها وكيف يكون رد فعلها.
وحرض خطيب الجمعة رئيس البلاد على الضرب بيد من حديد على أيدي المخالفين والمختلفين وأن لا يتعامل معهم بلين أو هوادة لأن اللئيم يفسر اللين والهوادة على أنهما ضعف، وحمل حملة شعواء على جبهة التخريب وأسقط عليهم كل صفات الضلال والعنف والانحراف الديني والخلقي والسياسي. وكانت نبرة الصوت تحمل كما هائلا من الغضب والكراهية والعنف، وقد ارتفعت إلى أقصى درجة تتحملها الأحبال الصوتية وتجاوزت حد التحمل حتى بح صوت الخطيب وأصبح يصيح بصعوبة شديدة ولكنه ثابر حتى يكمل مسيرته الجهادية ضد أهل الكفر والضلال والتخريب والخيانة.
واتضحت النزعة الطغيانية والسادية والفاشية لديه حين انتهى من خطبته وبدأ يعطي توجيهات لمن سيؤم المصلين في الصلاة ويعطي توجيهات أخرى للمصلين بنبرة سلطوية حادة. ولست أدري من الذي اختار خطيب جمعة "معا ضد العنف"، لكي يلقي تلك الخطبة المليئة بالعنصرية والكراهية والتحريض على العنف وتسخين الشارع المصري بعد أن كاد يهدأ قليلا، وإلى متى نظل نقع في أخطاء تشوه صورة خطبة الجمعة وتشوه التيار الإسلامي بل وتشوه قيم الإسلام في الداخل والخارج.
واقرأ أيضاً:
العريفي يعرفنا بمصر التي لانعرفها / من مدرسة المشاغبين إلى باسم يوسف / هل تدخل مصر عصر الميليشيات؟ / السقوط الأخلاقي على خلفية السحل والتزييف