كنا نخشى الوقوع في العنف نتيجة اضطراب مسار الثورة، فإذا بنا نواجه الآن حالات توحش، صحيح أنها لم تتحول إلى ظاهرة حتى الآن ولكنها مرشحة للتحول في أي وقت خاصة في حالة العناد السياسي والانسداد السياسي والفشل السياسي. ولنبدأ بالتوحش الأمني فنرى في الصورة الطفل بائع البطاطا (شديد الفقر، ضعيف البنية) الذي قتلوه بالرصاص ولم يرق له قلب، ثم نكمل بحفلة التعذيب والإهانة والسحل لحمادة صابر (المشهور بالمسحول) وهو عاري الجسد وفاقد الحيلة وسط مجموعة من الجنود يصبون عليه كل ألوان الغضب ويخرجون من إطار البشر إلى سلوك الوحوش التي تستمتع بتمزيق أشلاء الضحية ولا توقفها أية مشاعر من أي نوع؛
ثم ننتقل إلى حفلة القتل البشع في حادثة بني سويف حين وضع مجموعة من الضباط المتهم بقتل زميلهم فوق سيارة نصف نقل وظلوا يضربونه بأيديهم وأرجلهم حتى مات، والغريب أن هذا حدث تحت سمع وبصر أعداد كبيرة من الناس كانوا يشيعون جثمان الضابط القتيل، وكان يمشي في الجنازة كل من مدير الأمن والمحافظ. وتكتمل الصورة حين نرى جسد الثائر محمد الجندي وقد تشوه من آثار التعذيب الذي مات بسببه ويعيد إلى الذاكرة صورة خالد سعيد التي كانت أيقونة الثورة وأحد مفجراتها.
وننتقل من التوحش الأمني إلى التوحش الشعبي فنرى حفلات التحرش والاغتصاب في ميدان التحرير وفي كل الميادين والشوارع وفي وسائل المواصلات، ثم التوحش الشعبي حين يقطع الناس الغاضبون الطرق السريعة أو الكباري أو يوقفون القطارات وعربات المترو أو يحتجون بحق أو بغير حق أمام مصنع أو مؤسسة أو يهاجمون مكتب مسئول... إنها نفس العيون الغاضبة والعقول الغائبة والقلوب الجافة التي تحمل بداخلها براكين الغضب المخزون الجاهزة للتفجر في أي مكان ومع أي حدث وتجاه أي ضحية.
ويتوازى مع هذا أو ربما يسبقه ويؤججه التوحش الإعلامي حين يمسك إعلاميا بالميكروفون وتملأ صورته الشاشة لوقت طويل كي يبث خطاب الكراهية والعنصرية والتحقير تجاه من يعارضه سواء في السلطة أو الحكم، ولا يترك هذه الفرصة الإعلامية الذهبية حتى يصفي غريمه تماما ويقطع لحمه بلا رحمة أو هوادة، ولا يكتفي هو بذلك بل يستدرج محاوريه ومشاهديه للمشاركة في حفلة التصفية والتقطيع والتي يختمها بقوله "تصبحوا على خير". لقد ساهم الإعلام بقدر كبير من التوحش حين قام بتسخين الشارع وتحريضه ضد كل شيء في الوقت الذي لم يحدث فيه تغيير على الأرض أو تغيير في النفوس فلم يبق إلا انفجارات التوحش العشوائية، أي أن الوعي الساخن المتراكم في حالة انسداد المخارج ليس له نهاية إلا الانفجار.
ولا ننس التوحش السلطوي الذي يستحوذ على السلطة ويسعى للتمكين الأبدي ويمسك بكل الخيوط والحبال ويركب على الدولة ويخترق منافذها ويمسك بتلابيبها ويتحكم في مفاصلها ويستخدم الشعب المقهور لإشباع شهوة السلطة الأنانية السادية اللانهائية.
والتوحش في كل هذه الحالات يتجاوز حدود العنف إلى آفاق السادية، بمعنى أن المتوحش سواء كان أمنيا أو إعلاميا أو سلطويا أو شعبيا يستمتع بتعذيب الضحايا ولا يرق قلبه لاستغاثاتهم، ولا يتأثر بمنظر الدم ولا يجزع من مشهد التقطيع أو الإهانة أو القهر. إنها قمة الإنحدار في السلوك حيث يغيب العقل المنطقي المتوازن وحيث تموت المشاعر في كل مستوياتها ولا يبق منها إلا مشاعر العدوان البدائية، ويمارس الجاني المتوحش سلوكه ليس فقط بدم بارد كما كنا نصف الساديين المعتادين وإنما بدم يغلي من تراكمات الحقد والغل والضغينة.
كلما فشلت السياسة وتأخرت الحلول المنطقية العاقلة وتشوهت القيم والأخلاق وتضخمت الأطماع كلما واجهنا مزيدا من حالات التوحش التي تفوق أي تصور بشري أو حيواني.
واقرأ أيضاً:
السقوط الأخلاقي على خلفية السحل والتزييف / جمعة العقل وخطبة العنف والتحريض / السيد الرئيس.. الشبكه واقعه!