أكتب هذه الرسالة من واقع الأمانة والمسئولية المهنية، كما أكتبها من واقع الأخوة والمحبة لفصيل مصري مهم ومؤثر وله تاريخ نضالي طويل وله تأثير محلي ودولي لا ينكره منصف حتى ولو اختلف مع بعض جوانبه، وأكتبها بدافع القلق على مصر التي تعاني حاليا من انقسام خطير وصراعات ملتهبة وأزمات مهددة تكاد تعصف بمنجزات ثورة عظيمة دفع فيها المصريون ثمنا غاليا وتأملوا منها الخير فلم يجنوا إلا الإحباط حتى هذه اللحظة، كما أكتبه من باب النصيحة عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة...."، وبقوله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال أحد الصحابة: كيف أنصره ظالما، قال صلى الله عليه وسلم: تكفه عن ظلمه".
وهذه الرسالة موجهة في الأساس إلى الحكماء في الإخوان -وهم كثر- وأسأل الله أن لا يكون قد فات الأوان لوصولها واستقبالها، فالأحداث تتطور بسرعة خطيرة، ولا يدرك خطورتها إلا من يرى جوهرها ومراميها وتداعياتها بلا إنكار أو تبرير أو إسقاط أو إزاحة أو تهويل أو تهوين. وأرجو من قارئ هذه الرسالة من شباب الإخوان على وجه الخصوص أن لا يريح ضميره بأن يعتبر كاتبها من أعداء الصف الإسلامي أو من الفلول أو الثورة المضادة ويبادر مندفعا بالهجوم المضاد -كما تعودنا في الفترة الأخيرة بكل أسف- فأنا لست كذلك بل أنا ممن حلموا طوال عمرهم بتحقيق نهضة مصرية عظيمة تستلهم روح الحضارة الإسلامية ودفعت ثمنا غاليا لذلك الحلم وما ترتب عليه.
وأزعم أنني وغيري كثيرين -بدافع من الحب والإخلاص- قدمنا الكثير من النصح سرا لكثير من القيادات الإخوانية وكانوا ينصتون جيدا بأدب جم، ويعدون بتوصيل ذلك للقيادة الأعلى، ولكن تظل الأمور كما هي، لذا وجب النصح جهرا في هذه المرحلة خاصة بعد تفاقم الخطر عسى أن ينتبه من بيدهم الأمر (فعلا) ولا ضير في ذلك طالما خلصت النية.
والسلوك الانتحاري هو كل سلوك يؤدي إلى تدمير الذات جزئيا أو كليا، وقد يقع فيه شخص أو جماعة بوعي أو بدون وعي، ومن هنا وجب التنبيه، خاصة وأن الإخوان في الوقت الحالي بيدهم مقاليد الحكم في مصر، وأي خطأ أو خطر لن ينالهم وحدهم بل ينال الشعب المصري بأكمله رضينا أم لم نرض.
كان الإخوان فيما مضى تنظيم يتسم بالحذر الشديد والحيطة والبطء في اتخاذ أي قرار أو الإقدام على أي فعل وكانوا يلامون على ذلك كثيرا، وكان المحللون يفسرون هذا بأنه يرجع إلى البيروقراطية المؤسسية داخل التنظيم ويرجع إلى ظروف الحظر والقهر والتجريم وإلى المسئولية التي يشعر بها صاحب القرار تجاه أتباعه وأعضاء تنظيمه الذين يتحملون تداعيات أي قرار ويدفعون الثمن غاليا من حريتهم ومقدرات حياتهم. أما في الفترة الأخيرة فيلاحظ تغير نوعي في طريقة اتخاذ القرار (من اندفاع وعجلة وعدم التحسب لعواقب الأمور) تنم عن تغيير في آلية اتخاذ القرارات، وينتج عنها أخطاء متتالية ومتراكمة تشكل منظومة من السلوك الهادم للذات أو ما نسميه السلوك الانتحاري، وفيما يلي نذكر بعض مظاهر ذلك السلوك الانتحاري:
1- الاندفاع المحموم نحو السلطة: وكان الثمن غاليا إذ تم تجاوز الوعود والعهود، وتمت التضحية بجوانب أخلاقية مهمة، وابتعد الصف أو جزء كبير منه عن الرسالة الدعوية والتربوية المهمة وتراجعت الروحانيات العميقة في الأسرة والكتيبة ليحل محلها حالة من الصراع السياسي البغيض نتج عنه سلوكا عدائيا تجاه الآخر وتشككا وسوء ظن في كل من يعارض أو ينبه أو ينتقد، وخسر الإخوان كثير من المؤيدين ورفاق الدرب، وباتوا في عزلة خطيرة تهدد سلامتهم وبقاءهم، ومع هذا لم يستقر كرسي السلطة بل هو يهتز بشدة هذه الأيام. وقد نسي قادة الإخوان في اندفاعهم نحو السلطة أنها في الوقت الحالي وبعد ظروف الثورة والمرحلة الإنتقالية المرتبكة هي عبارة عن كرة لهب، ومع هذا يصرون على الإحتفاظ والتشبث بكرة اللهب كاملة في حجرهم، وحين يستشعرون بعض لهيبها يقولون "إن جلدنا تخين ولن نتأثر".
2- العزلة: فقد عاش الإخوان سنوات من القهر والتجريم والاستضعاف، وتعودوا على العمل في الغرف المغلقة أغلب الوقت وتعودوا على سلوك التقية وتعودوا على الكتمان والسرية، وتعودوا أن لا يثقوا بأحد بسهولة، وأن يدوروا في دوائر إخوانية خالصة لكي يتجنبوا الاختراق والتمزيق والإنهاك والتدمير، وتعودوا على الاجتماعات المغلقة، وتعودوا على أقصى درجات الكتمان والسرية. وبعد أن وصلوا للسلطة وأصبحوا يديرون الدولة، مازالت الكثير من سلوكيات العزلة تسيطر عليهم وحالت بينهم وبين التواصل الصحي مع بقية تيارات وفصائل المجتمع ودفعتهم إلى سلوك إقصائي واستبعادي طالما عانوا هم أنفسهم منه حين كان النظام السابق يحرص على إقصائهم واستبعادهم من كل الوظائف المهمة وغير المهمة، وهاهم يعيشون مرة أخرى في الجيتو الإخواني ويحافظون على خلوه من أي غريب على الصف الإخواني. وهذه العزلة جعلتهم الآن محاصرين باللوم والتقريع والسخرية والهجوم والشك والعداوة من كثير من الاتجاهات والفصائل، وكلما زاد الهجوم وزاد التهديد زادت العزلة، وأصبح هناك خطر يهدد بالانقضاض المجتمعي على الكتلة الإخوانية المعزولة بعد فصلها عن قواعد تأييدها في المجتمع.
3- الدفاعات النفسية: وتكثر تلك الدفاعات بشكل ملفت للنظر في السلوك الإخواني في الشهور الأخيرة، وخطورة تلك الدفاعات والإسراف فيها أنها تحجب الرؤية الحقيقية عن متخذي القرار في المطبخ الإخواني فتأتي القرارات بعيدة عن الرشد والصواب وبعيدة عن الواقع وربما تأتي بعد فوات الأوان. ونذكر من هذه الدفاعات حالة الإنكار الخطيرة لكل ما يجري في مصر وحولها، إذ لا يرى صاحب القرار الصورة على حقيقتها بل يحجب -بلا وعي- الأجزاء المؤلمة أو السلبية من الصورة حتى يستريح وحتى تتوافق الصورة مع ثوابته الفكرية والعقدية، ولكن تظل الحقيقة على الأرض هي هي فيدخل الإخوان في حقول الألغام لينفجر فيهم لغم بعد الآخر ومع ذلك لا ينتبهوا أو يتراجعوا أو يراجعوا أنفسه، بل يخففون وقع ذلك على أنفسهم بالقول بأنهم أصحاب رسالة، وأن كل صاحب رسالة معرض للمحن والنكبات وأنهم يثابون على هذه المحن والنكبات، ثم يلجأون إلى وسائل دفاعية أخرى مثل التبرير (إيجاد مبرر غير حقيقي لما يحدث) أو الإسقاط (عزو ما يحدث لقوى شريرة ومتربصة بهم وبمصر) أو الإزاحة (تحويل الأمر من مصدره الحقيقي إلى مصدر آخر) أو التهوين أو التهويل..... الخ . وكثرة هذه الحيل والدفاعات النفسية قد تخفف عنهم صدمات الواقع لفترات قصيرة ولكنها تزيف صورة الواقع وتجعلهم بعيدين عن الإدراك السليم للأمور، وبالتالي عن القرارات الصائبة.
4- الصورة الذهنية: لقد تكونت صورة ذهنية شديدة السلبية عن الإخوان في الوعي المصري العام (أو على الأقل لدى قطاعات كبيرة منه) بسبب أخطاء وقع فيها الإخوان وتلقفتها ماكينة إعلامية هائلة وشرسة ومتوحشة فضخمتها ونشرتها على أوسع نطاق (ولو أن بعضها لم يكن ليحتاج إلى تضخيم)، ومع تراكم الأخطاء وتزايد النشاط الإعلامي المعادي للإخوان (وضعف الآلة الإعلامية لديهم بشكل خطير) تكونت تلك الصورة الذهنية السلبية والتي تتلخص في: الكذب والادعاء وخلف الوعد وخيانة الأمانة واللف والدوران والاحتيال والطمع والاستحواذ وشهوة السلطة واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وشخصية، والبراجماتية والانتهازية....... الخ.
ولقد نبهت كثيرا ومبكرا إلى خطورة تكون هذه الصورة الذهنية السلبية، ولكن من كنت أنبههم كانوا يطمئنونني ويطمئنون أنفسهم بأن الشارع المصري معهم قلبا وقالبا، وأن هذه الصورة الذهنية صنعتها النخبة العلمانية المعادية للإخوان وللمشروع الإسلامي، وهذه النخبة ليس لها وجود أو تأثير خارج منتدياتها السياسية وشاشات تليفزيوناتها. ولم ينتبه الإخوان لخطورة الموقف حتى عندما ظهرت دلائل لتراجع شعبيتهم وتآكل التعاطف معهم، والدليل على ذلك رغبتهم المحمومة دائما للاحتكام لصناديق الانتخابات ظنا منهم أن عموم المصريين معهم دائما مهما حدث. ولقد استغلت كل الأخطاء والكوارث والنكبات التي حدثت في الشهور الأخيرة لتشويه صورة الإخوان للدرجة التي جعلت قطاعا لا يستهان به من المصريين يتمنون الخلاص من حكم الإخوان حتى ولو كان الثمن عودة العسكر مرة أخرى.
وزاد من تشوه الصورة الذهنية تفرغ المعارضين للإخوان لمحاربتهم، إذ تخلت تلك المعارضة عن ممارسة أي فعل إصلاحي حقيقي في المجتمع وتفرغت تماما لتحطيم الكيان الإخواني الذي تورط وحده (طمعا أو جهلا) في تحمل المسئولية فوضع نفسه هدفا للسهام من كل ناحية وصوب، فأثخنته الجراح وأفقدته القدرة على الفعل والتأثير.
5- عدم الاستفادة من الأخطاء وعدم التعلم من التجارب: وهذه مشكلة مزمنة لدى الإخوان جعلتهم يقضون سنوات طويلة يقعون في نفس الأخطاء ويضعون أنفسهم في وضع الإضطهاد والتعذيب مع أنظمة مختلفة وقادة ورؤساء متعددين، وكانوا لا يراجعون أخطاءهم بل لا يعتبرونها أخطاء أصلا، ويتورطون في التفسير القدري المبني على الحيل والدفاعات النفسية سابقة الذكر بأنهم مضطهدون من كل القوى الداخلية والخارجية لأنهم يحاولون إعادة الإسلام كرسالة شاملة لكل جوانب الحياة ولا بد لمن يتصدى لهذا العمل أن يواجه بكل ألوان الإضطهاد والتنكيل، وهكذا فقد الإخوان الإستفادة من آلية ال Feed Back أو التغذية المرتجعة والتي تصحح السلوك حتى لا نقع في الأخطاء مرة بعد أخرى، وهذا يفسر قلة الخبرة السياسية لدى الإخوان على الرغم من تصديهم للعمل السياسي على مدى خمسة وثمانين عاما، فعمرهم ونضجهم السياسي الحقيقي لا يعكس أبدا هذا البعد الزمني الكبير، وقد ظهر هذا جليا في أخطائهم في إدارة الدولة وإدارة الصراع السياسي بعد أن وصلوا للحكم.
6- مركزية وبيروقراطية القرار: فعلى الرغم من وجود أشكال وآليات للشورى داخل الجماعة، إلا أن مبدأ السمع والطاعة يجعل القرار في يد أفراد معدودين على أصابع اليد الواحدة، ولا تساهم الأشكال والآليات المؤسسية إلا في استنفاذ وقت طويل حتى يصدر القرار محافظا على الشكل الديموقراطي دون المضمون، وهذا الوقت يجعل القرار في غير توقيته الصحيح. ولهذا تعكس القرارات رؤى وتوجهات أفراد معدودين من قادة الإخوان، ومع هذا تضطر القواعد للإلتزام بالقرارات وتداعياتها على الرغم من وضوح خطئها وذلك بناءا على مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر في المنشط والمكره.
وكثيرا ما تلقى أعضاء في الجماعة لا يرضون عما يحدث من أخطاء كارثية لا يقع فيها أي تنظيم مبتدئ، ولكنهم يسلمون في النهاية بأن القيادة لديها تصورات أشمل ولابد أنها على حق فيما تذهب إليه. وإذا حاول البعض التجرؤ والاعتراض على أخطاء القيادة فإنه سرعان ما يستبعد على أساس أنه يشق الصف ولا يلتزم مبدأ الطاعة والجندية. وقد أدى تكرار خروج هذه الأصوات المعارضة إلى حرمان الجماعة من فرص نقد الذات والتصحيح الذاتي لأخطائها، ثم إذا جاء هذا النقد من خارج الصف يسارع قادة الجماعة وربما شبابها إلى وصم هذا النقد وصاحبه بمعاداة الإخوان أو معادة المشروع الإسلامي أو حتى معادة الإسلام ويجتهدون في محاربته من خلال الكتائب الإلكترونية وغيرها. وهكذا فقدت الجماعة جهاز المناعة الذي يحميها من الوقوع في الخطأ وفقدت مضادات الفيروسات في برامجها فأصيبت البرامج بالخلل في بعض جوانبها دون أن يدري أحد.
7- البراجماتية فوق القيم والأخلاق: فكل من يتابع سلوك الإخوان خاصة في السنوات الأخيرة يلحظ قدرا هائلا من السلوك البراجماتي، بمعنى أنهم يتحركون بدافع تحقيق المصالح حتى ولو تعارضت الحركة مع القيم والأخلاقيات والمبادئ التي تميزهم (أو يجب أن تميزهم) كجماعة دعوية تربوية إسلامية، والأمثلة على ذلك لا حصر لها ويضيق الوقت وتضيق المساحة عن ذكرها، ويلاحظها القاصي والداني، وكانت هذه من أهم المطاعن في سلوك الإخوان ومن أهم عوامل تشوه الصورة الذهنية، وقد استغلها الكارهون للإخوان في تشويه صورتهم ليل نهار ووجدوا فيها مادة خصبة للهجوم.
وكان الإخوان يتجاوزون الصراع بين مصالحهم وقيمهم بتبريرات تبدو لهم منطقية ولكنها كانت تكشف لمن يراهم من خارج هشاشة القواعد الأخلاقية والمعايير السلوكية، بحيث يبدو السلوك الإخواني متناقضا ومتقلبا وملتويا ومتوجها ببوصلة المصالح لا ببوصلة القيم والمبادئ. وأيضا يلعب الإنكار والتبرير والإسقاط دورا في عدم إدراك القيادة الإخوانية لخطورة هذا المسلك على مصداقيتهم ومرجعيتهم الإسلامية التي يفترض أن تعلو فيها القيم والمبادئ والأخلاق على تحقيق المصالح السياسية. ويبدو أن النهم للسلطة القابع في أعماق العقل القيادي كان وراء الوقوع في هذه الحفرة التي جعلت الإخوان يخسرون كثيرا وتتآكل شعبيتهم (ظهر هذا جليا في انتخابات اتحادات الطلاب في الجامعات) بعد أن كانوا يتمتعون لوقت قريب بثقة الناس ويحصدون أصواتهم في الانتخابات التشريعية وبدرجة أقل في الانتخابات الرئاسية.
8- العناد السلطوي: وهو يتبدى بوضوح في سلوك مؤسسة الرئاسة التي عجزت عن احتواء المعارضة كما عجزت عن التواصل معها، ولجأت إلى القرارات المنفردة أو التي تعبر عن رؤية الإخوان دون غيرهم غير عابئة بما يدور في المجتمع من تفاعلات وما يحيط بها من كوارث وأزمات، وانفصلت تلك المؤسسة الرئاسية تماما عن نبض الشارع ولم تعد تتفاعل معه بشكل صحيح، ولذلك تكتسب المزيد من العداوات يوما بعد يوم دون أي انتباه أو مراجعة ودون أي تغيير في سلوكها، وكأنها لا تدرك أو لاتأبه بحجم الأخطار المحيطة بها وبالمجتمع المصري ككل. وقد أدى فشل التواصل مع الناس وفشل التواصل مع رموز المعارضة إلى حالة من فقد الثقة بين الجميع وإلى فشل كل دعوات الحوار التي أطلقتها مؤسسة الرئاسة، وتطور الأمر إلى حالة من العناد المقابل من جهة المعارضة فوصل الأمر إلى انسداد سياسي واكبه انفلات أمني وغضب شعبي متصاع، وأصبح كرسي السلطة يهتز بشدة تحت تأثير الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات وأعمال العنف المنتشرة في طول البلاد وعرضها دون أمل في الوصول إلى توافق أو تحقيق تواصل حقيقي مع كافة أطياف المجتمع.
9- اعتماد المدخل العقدي والفكري دون المدخل التنموي: فقد اهتم الإخوان الممثلين في مؤسسة الرئاسة وفي الحكومة وفي المجالس النيابية قبل حلها بمحاولة رسم الخريطة التشريعية والفكرية والثقافية (خاصة في الدستور) بناءا على التصور الإخواني مما أغضب الكثير من التيارات والفصائل السياسية والمجتمعية واستعداهم على الإخوان وراحوا يضعون العقبات ويصنعون المشكلات تعبيرا عن غضبهم من السلوك الإخواني الإستحواذي المنفرد في رأيهم. وقد كان من الأولى والأجدر في هذه المرحلة الإنتقالية الصعبة اعتماد المدخل التنموي الذي يهتم في الأساس بتحقيق مصالح الناس، وكان هذا أدعى لالتفاف الناس حولهم ومؤازرتهم لجهودهم.
10- الإستهانة بذكاء المصريين: وذلك من خلال اتباع حيل وألاعيب سياسية وغير سياسية، والقيام بمناورات ومراوغات تخفي أهدافا براجماتية ظنا منهم أن الناس لا يعرفون أو لا يكشفون تلك الحيل والمناورات، وهذا خطأ فادح أن تفترض في شعب الغباء بينما هو معروف على مدى تاريخه الطويل بالذكاء والفطنة وسرعة البديهة.
11- تسلط فكرة التمكين: وربما تأتي قوة هذه الفكرة في الوعي الإخواني كرد فعل عنيف على حالة الاستبعاد والإقصاء والتجريم التي مورست ضدهم لسنوات طويلة حيث حرموا من الدخول للجيش والشرطة والوظائف المهمة وغير المهمة بقرارات أمنية أو سياسية. والآن وقد وصلوا إلى قمة السلطة فيبدو أن لديهم جوع وعطش شديد إلى التغلغل في مفاصل الدولة والوصول إلى كل المناصب المؤثرة والحيوية في اندفاعة أثارت حساسيات كثيرة وأدت إلى حالة من الاستفزاز والغضب رد عليها من بيدهم القرار بحالة من الإنكار الذي لا يصدقه عاقل.
وفكرة التمكين قد تجوز في الأديان خاصة في بداياتها حتى يستقر الدين في نفوس عدد كاف من الأتباع يحملونه بعد ذلك لبقية البشر، أما في السياسة فالتمكين ضد الديموقراطية والتي تقوم أساسا على مبدأ تداول السلطة. وقد أدت عملية التمكين (والتي عرفت إعلاميا بأخونة الدولة) إلى توظيف أهل الثقة وتفضيلهم على أهل الخبرة، فأدى ذلك إلى ضعف شديد في الأداء الرئاسي والحكومي هز ثقة الناس في قدرة الإخوان على إدارة شئون البلاد، كما أوغر صدور أصحاب الكفاءة وهم يرون من هم أضعف منهم يعتلون المناصب.
12- الاغتراب: وهو يعني وجود فجوة بين تصورات الإخوان وسلوكياتهم من ناحية وتصورات وسلوكيات عموم المصريين من ناحية أخرى. وربما يعود السبب في ذلك إلى عزلة الإخوان سنوات طويلة وتبنيهم تصورات شديدة الخصوصية وشديدة الذاتية حافظت على تماسك الجماعة وتميزها لدى أفرادها، ويراد الآن للشعب المصري تبني مثل هذه الرؤى والأفكار والسلوكيات التي لم يتعود عليها، لذلك تشعر قطاعات من الشعب بالغربة تجاه التصور الإخواني والسلوك الإخواني، ويعبر عن هذه الغربة قول أحدهم: "إنني أشعر أن الإخوان يأخذونني إلى مصر لا أعرفها"، وقول أحدهم: "إنني أشعر بجفوة وغربة تجاه الإخوان على الرغم من أنني لا أعاديهم ولا أختلف معهم".
وبعبارة أخرى نقول أن ثمة حالة من ضعف التواصل الوجداني مع المصريين الذين تعودوا أن يعيشوا مشاعرهم بصدق وتلقائية وبساطة بينما اعتاد الإخوان إخفاء مشاعرهم والتحكم في رغباتهم واتباع استراتيجيات حذر ووقاية وتقية. كما أن المصري البسيط يصدر رأيه ويعبر عن مشاعره بشكل شخصي ومباشر ووقتي، بينما فرد الإخوان مرتبط برأي الجماعة ورؤيتها وتوجهاتها وينتظر منها الإشارة إلى الجهة التي ينبغي أن يتوجه إليها، ولهذا تأتي استجاباته متأخرة ومصنوعة ومفتقدة للتلقائية والحميمية.
وحتى المساحة الدينية التي يفترض أن يلتقي فيها الإخوان مع جموع المصريين تشهد في عمقها اغترابا حقيقيا ، فالتدين لدى المصري البسيط ينبع من رحم الحب لله وسائر رسله ولآل البيت ويتميز بالبساطة والسماحة واللين والرحمة والمباشرة والتلقائية والبهجة والبعد عن الصراع السياسي بكافة أشكاله والعيش في سلام ووئام مع الآخر ، أما التدين الإخواني فيحمل في طياته معاني الصراع مع الآخر المعادي والمتربص ويهدف إلى إحداث التغيير المنهجي والمتعمد في الأفراد والمجتمعات وفق نموذج سابق التجهيز، ويتوجه نحو التمكين والسيطرة والتحكم، وتسكنه خيالات الاضطهاد والظلم والمطاردة من الآخر في الداخل والخارج، وتحركه أحلام الخلافة الكونية والسيطرة العالمية.
13- السرية: لقد تبنى الإخوان مبدأ السرية على مدى خمسة وثمانين عاما، ومازال الغاطس من التنظيم أكبر بكثير من الظاهر منه على الرغم من تمكن الإخوان من السلطة في مصر وغيرها من بلدان الربيع العربي، وكانت الحجة في السرية أن الإخوان مضطهدين ومطاردين من الحكومات العربية وغير العربية المعادية للمشروع الإسلامي، وتتقوى تلك الحجة في الوعي الإخواني بمسألة الدعوة السرية في بداية الدعوة الإسلامية حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي أصحابه سرا في دار الأرقم بن أبي الأرقم. ونسوا أن الدعوة السرية لم تستغرق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاث سنوات بغرض تكوين النواة الأساسية للدعوة ثم انطلقت جهرية بعد ذلك.
أما ما حدث من استمرار سرية الدعوة والتنظيم لدى الإخوان لأكثر من خمسة وثمانين عاما فقد ألقى بظلال من الشك والتوجس تجاه التنظيم وأهدافه ومراميه وآلياته، خاصة في هذا العصر الحديث الذي يعلي من قيمة الشفافية والوضوح والعلنية. والناس عموما أعداء ما يجهلونه، وهم يقلقون جدا أمام أي حركة أو تنظيم سري ولا يشعرون بالأمان في التعامل مع أعضائه، فمابال إذا كان هذا التنظيم يحكم البلاد؟. وحتى هذه اللحظة لم يستطع تنظيم الإخوان حل معضلة السرية/العلنية في التنظيم، وبالتالي حل معضلة تقنين أوضاع الجماعة وخضوعها للقانون الذي يحقق الشفافية في سلوك الجماعة ويمنح الآخرين الشعور بالطمأنينة.
كانت هذه بعض عوامل الخطورة في السلوك الانتحاري لدى الإخوان، ونسميه انتحاريا نظرا لما يترتب عليه من تداعيات الصورة الذهنية السلبية، والسرية، والعزلة عن المجتمع، واستفزاز المعارضين، وتراكم أعداد المعادين، واشتعال الحرائق في الوطن يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة في وجود حالة من الإنكار واللامبالاة تنذر بمخاطر جمة أقلها حدوث حالة غضب مرتدة تجاه الإخوان من القوى المناوئة لكي تعزل الإخوان عن السلطة التي تشبثوا بها ودفعوا فيها ثمنا غاليا ثم تتوجه نحوهم بالاضطهاد والتنكيل مرة أخرى ويدخلون في دورة جديدة من الوصم والتمييز العنصري والإقصاء والتعذيب وربما القتل على الهوية لا قدر الله.
وليسامحني كل من يقرأ هذه الرسالة على ما بها من صراحة أعلم أنها موجعة وربما صادمة، ولكنني آمل أن تكون هذه الرسالة وما ينتج عنها من وعي مؤلم فرصة للمراجعة قبل فوات الأوان، خاصة وأنني أعتبر الإخوان فصيل مصري وإسلامي مهم وأعرف مالديهم من جوانب قوة وتميز ربما لم يتسع المجال لذكرها وربما لايعرفها إلا من اقترب فعلا من الإخوان وعرف ما بينهم من تراحم وتكافل وترابط وما قدموه من تضحيات من أمنهم واستقرارهم وحياتهم، وأن بينهم من يفيضون صدقا وإخلاصا لمصر وللإسلام وللإنسانية، وأن فيهم كوادر هائلة في كل المجالات على الرغم من استبعادهم لسنوات طويلة عن مراكز التأثير، وأن لديهم برنامج تربوي غاية في القوة والتماسك والتأثير، وأن كثيرين من رجالات مصر ونسائها العظام قد تربوا في فترات من حياتهم على يد كوادر إخوانية وابتعدوا تنظيميا عن الجماعة لظروف خاصة أو عامة ولكن بقيت بداخلهم آثار تربوية عظيمة تلقوها في الأسر والكتائب والمعسكرات وسائر الفعاليات التربوية الإخوانية، وأن الإخوان حافظوا -وما يزالون- على توهج وحيوية الهوية الإسلامية ليس في مصر فقط بل في العالم العربي والإسلامي والغربي والشرقي، وأنهم يشكلون نواة متماسكة في المجتمع قادرة على الفعل والتأثير (بينما غيرهم يكتفون بالكلام والهجوم دون فعل حقيقي).
لذا وجب علينا النصح ووجبت المساعدة في تصحيح الأخطاء للإخوان وغيرهم من الفصائل والجماعات والمجموعات والطوائف والأحزاب سعيا لحالة من النضج السياسي والثقافي والاجتماعي نحتاجها جميعا لكي نخرج من أزمتنا الراهنة بسلام، وإذا كان التركيز في هذه الرسالة على أخطاء الإخوان فليس لانعدام الأخطاء عند غيرهم ولكن لكونهم يمسكون بمقاليد الأمور في هذا الوقت ولذلك يصبحون أولى بالنصح والتنبيه عسى أن يصلحهم الله ويصلح بهم، والله من وراء القصد.
واقرأ أيضاً:
جمعة العقل وخطبة العنف والتحريض / السيد الرئيس.. الشبكه واقعه! / مازوخية المصريين: باي باي ثورة! / فرط الطمأنينة في خطاب الرئيس