الاجترار هو أن تسترجع ما وضعته في معدتك إلى فمك، وتقوم بمضغه وابتلاعه مرة ثانية أو أكثر. والمعروف أن المجترات ruminants كالأغنام، أنها تجتر ما تأكله كالحنطة والشعير، وكأنها قد ابتلعته ورطبته في معدتها ذات الأقسام الأربعة، لتقوم بعد ذلك بطحنه بأسنانها، لتتمكن من هضمه بسهولة ومن غير تخمة أو عسر.
والبشر لا يمكنه أن يجتر طعامه لأنه سيحرق مريئه وبلعومه، فمعدته قد سكبت أحماضها على الطعام فأوهنته، وأعدته لأنزيمات هاضمة في الإثني عشري والأمعاء الدقيقة الأخرى، التي تأخذ منه ما تريد وتلقي بما لا تريده كفضلات. لكن البشر أيضا يعاني من حالة الاجترار، فهو لا يجتر طعامه بل أفكاره، ويتواصل في تداولها ما بين أجياله، فيحقق حالة المراوحة في أطيان الحالة المقيمة التي يعاني منها. وعندما يجتر البشر أفكاره يتأخر، لأنه سيعيش في عزلة عن أجواء وظروف التقدم، ويعيد التفاعل مع ذات الموضوعات، التي تفاعلت معها أجيال عديدة من قبله.
ومن يتأمل أحوالنا، تتضح أمامه بجلاء مأساة اجترار الأفكار، التي نعيشها ونعاني منها جميعا، وكأننا ما خطونا إلى الأمام، ولا عرفنا طعم المعاصرة والحياة، التي نحن في زمنها السريع الانطلاق إلى معالي الرقاء والأمل والرجاء.
فلا زلنا نتحدث عما جرى في قرون بعيدة، ونؤلف الكتب والمقالات عن موضوعات لا تقدم لنا شيئا نافعا، بقدر ما تحقق إسنادا نفسيا وانفعاليا لحالة التأخر والانحدار الأشد إلى الوراء.
وربما نغفل هذه العاهة الحضارية، التي تسببت باضطراب المراوحة وعدم المبارحة، وبالسير إلى الخلف، لأنها تستنزف الطاقات الحية للأجيال، وتسكنها في تراب الأجداث، وكأنها تريد أن تحل المشاكل القائمة ما بين القبور، وتحسب ذلك إبداعا وتقديما مفيدا للحالة التي نتفاعل معها. فالأمم التي تريد أن تتقدم وتتأكد في عصرها، يتوجب عليها التحرر من عاهة اجترار الأفكار والمعارف، وأن يكون سلوكها مبنيا على قواعد الانطلاق إلى أمام. لأن الأزمان تتبدل والأجيال تتغير، ولا يجوز لها أن ترتكب جريمة استعباد أجيالها بهموم جيل واحد، أدى ما عليه وحقق وجوده، وسطع بكل ما فيه وغادر الأرض، وكأنه أوكل مشاكله إلى العديد من الأجيال من بعده.
ومن هنا فإن الأمة لا يمكنها أن تلحق بغيرها، وتتقدم إن لم تعي هذه المعضلة الحضارية، وترتقي بكل ما فيها إلى زمنها، وتعاصر وجودها الكبير، وتتخلص من الثقل الانحداري الذي أحنى قامتها، وبعثر خطواتها وأوقعها في وديان لا تريد الوقوع فيها، وأوردها ما لا يرويها، بل وكأنها تضع الرمل في فمها وتحسبه الماء.
إن الاجترار بأنواعه مشكلة جوهرية تقيّد القدرات وتحطم القابليات، وتضع التطلعات في زنزانة الظلام والاحتراق، وتهتك أعراض المُثل والأخلاق والقيم والقواعد، التي تريد من البشر أن يرتقوا ويتفاعلوا مع زمانهم لا زمن غيرهم البعيد. ويعين على الانصفاد في قيود الضياع والذوبان في تراب المجهول، والغياب البعيد في طريق مسدود، لا يعرف النماء والانطلاق إلى عالم رحب سعيد، ويأسر الأجيال في قبضة الفناء والانقراض.
ويبقى الاجترار مشكلة تربوية حضارية بحاجة إلى مواجهة وتحدي وإصرار على إزاحتها، وتقرير مصير المسيرة اللاحقة، لأبناء الأمة في طريق الحياة الصاعد.
واقرأ أيضاً:
الحلّ بالعقل!! / العقل الديمقراطي!! / هل الكتابة إدمان؟!!