"وليس سباع البر مثل ضباعه ولا كل من خاض العجاجة عنتر"
العنترية مشتقة من العنترة، وهي التشجيع في الحرب والحث عليها، بل إنها الهوس بالحرب والقتل وسفك الدماء. ولها في ثقافتنا رمز تسيّد على أجنحة خيالنا وحلّق خالدا في عالمنا، وهو عنترة بن شداد العبسي، ذلك الرجل الذي كان مستعبدا وقرر أن ينتصر على عبوديته، بالبطولة والاستبسال والحب والشعر والإبداع.
عنترة الذي تحول من حلاب وصرار إلى كرار وفرار، فانتصر على العبودية وتسامق في سماء الحرية والقوة.
عنترة بن شداد الذي ترشحت في لا وعينا صولاته وبطولاته، وتفاعلات مشاعره الإنسانية في زمن الحرب، وهو يصور السيوف تقطر دما، وتلمع كبارق ثغر حبيبته المتبسم
"فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم"
إنه يريد أن يقول يا عبلة يا حبيبتي، أنا إنسان برغم لوني وقوة عضلاتي وصولاتي وفتكي بالبشر الآخر الذي أسميه عدوا.
"سوادي بياض حين تبدو شمائلي وفعلي على الأنساب يزهى ويفخر"
نعم يا عبلة أنا إنسان أعشق وأكتب شعرا، وأسفك دما من أجل الحياة ومن أجل أن أكون عنترة.
"وعدت وسيفي من دم القوم أحمر"
وعنترة الفعل والقوة والاقتحام يتوطن لا وعينا بأسلوب مشوه، ويحركنا في الحياة ولا يتركنا من غير عنتريات وصولات وجولات ومغامرات، تتدفق فيها الدماء وتتحول قطراتها على حد السيف إلى مبعث للحب والفخر والغزل. ولا ندري كيف مات عنترة وهو القائل:
"وأنا المنية وابن كل منية وسواد جلدي ثوبها ورداها"
ويبدو أن الميثولوجيا لا تريده أن يموت، أو تدفع إلى غرسه في نفوسنا وتسيّده على وعينا وسلوكنا المزدحم بالغضب والاقتحام، والمعارك الطاحنة على جميع المستويات.
عنترة العبسي، صار يتأكد على الكرسي، الذي يدفع بالجالس عليه إلى أن يصرّح بالقول والفعل ويصرخ: أنا عنترة!
ولكن ليس عنترة الذي يقول:
"دعيني أجدّ إلى العلياء في الطلب وأبلغ الغاية القصوى من الرتب"
عنترة الذي تحول من حال إلى حال، فارتقى في فضاءات المرابع المعشبة، ومضى عابثا في الشوارع والحارات، التي كانت تتغرغر بالأمن والأمان فحولها إلى مواطن للمآسي والآهات. عنترة الذي يقاتل المحبة والفرح والسعادة، وينثر الكراهية والبغضاء والعناء والشقاء، ويحسبها زهورا وطيبا ونقاء.
وتتوالى العنتريات وتتواصل الويلات، وعنترة لا عنترة، ومن حوله يتم صياغة متواليات شيبوبية، ذات تأثيرات متواترة لتحقيق البطولات العنترية. ولكل عنترة الآلاف من أحفاد شيبوب يتحركون أمامه ويقضون بأمره، ولا يفكرون بل يفعلون ما يؤمرون. والمصيبة التي لا يمكن الخروج منها، هي التكاثر الأميبي السريع للعنترية، والتوالد العجائبي للشيبوبية. وهي في غالبيتها مثلما شبهها عنترة:
"إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب"
وهكذا تحولت الساحة إلى صراعات بين آل عنترة وعنترة ومن خلفهم آل شيبوب وشيبوب. وتمزق العبسيون وصار عندهم الكثير مما يشبه عنترة. واحتارت عبلة العاشقة الولهانة التي تريد عنترة واحدا، يحبها ويعبّر معها عن الحياة، ويعشق فيها رسالتها الأنثوية وإرادتها البقائية الإبداعية، لكنها أصيبت بغثيان عنتري شديد، فهي عائمة فوق أمواج شيبوبية لا تهدأ.
"عبلة قد زاد شوقي وما أرى الدهر يدني الأحبة"
عبلة تشرب الدموع وتستحم بالدماء وترى نيران الغضب والكراهية ولا تدري ما تفعل. وراحت تبحث عن عنترها، وإذا هي أمام حشود عنترية بصور وأشكال غريبة، تتحرك أمامها وتهتف بإسمها فالكل ينادي أنا عنترة!
أجل يا عبلة!
الكل ينادي أنا عنترة!
ولا مجال عندك أو فرصة للعثور على عنترك الحقيقي الأصيل.
ولا يمكنك أن تتعرفي عليه، لأن السنابك العنترية قد تكاثرت وتشطرت وتقاتلت، وقطعت أوصال عنترة الحبيب وجمّعتها بأسلوب حضاري متطور، وقالت: إنه "نرتع"، وكذلك قالت وفق رؤاها إنه مصائب "تنعر" ووصفت الأيام بأنها "ترعن" وقلبتها مرة أخرى فقالت: "نترع" الأيام بمفردات الشقاق والضياع الباسل.
فتخيلي يا عبلة كيف ستجدين عنترة!
وهكذا يتم في العالم العنتري، إعادة تخليق الأسماء والقيم والمعاني بواسطة التقطير الإتلافي، فيتحول القتل الشديد إلى مستودعات النفط تحت الأرض.
وتكون مفاهيمنا السامية، ذات تعبيرات جديدة وسلوكيات متطورة، نعجز عن فهمها، لأننا من العالم المتطاير، أو المتطرطر، الذي لا تعرف أجزاءه بعضها لأنها تحيا في أقبية الموت، كما يفعل سكان القبور الفردية التي باتت نادرة في الزمان الكارثي المروع، الذي صار يتمنى البشر فيه أن يدفن بكامل أجزاء جسمه، ويخشى أن يتحول إلى شظايا لحمية لا يمكن جمعها، لتكون ذات ملامح ومواصفات بشرية دالة عليه.
وربما قررت عبلة أن تموت، وتعلن ابتداء الفواجع العنترية. فهي لا تطيق أن ترى ما يجري بين العناترة الصاعدة إلى حيث الفناء الحتمي السريع. وهي تسمع نداء عنترة يتردد في مسامعها
"يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي"
يا عبلة عنترك في مأزق، وشيبوب أصيب بذهان الهوس الفتاك، فلا يعرف إلا أن يقتل ويرى الدماء تتدفق من شرايين الأعناق.
يا عبلة لا تتأملي، فما عندنا إلا العنتريات، التي تجردت من كل قيمة ومبدأ وعقيدة، لأن الإخلاص للأرض والأهل قد أصبح في عرفها خطرا حضاريا وفعلا إستبداديا، وما يعنيها الكراسي التي تجلس عليها إلى أن تدوسها سنابك الأهوال.
يا عبلة لماذا لا تعودي إلينا وتحملي رايات عنترة، وتدفعي بالعنتريات إلى عنابر اليأس، وتكبلي شيبوب بأصفاد الرعب والخجل والندم والألم.
وتصنعي الحياة بحبيبك عنترة وترقبيه وهو يقول لك:
"قفي وانظري يا عبل فعلي وعايني طعاني إذا ثار العجاج المكدر"
يا عبلة لا أمل لنا إلا فيك، فالعناترة قد حطموا أسباب الحياة، ونحن نبحث عن الذي يبنيها، ويصون المال والحال وأهل البلاد.
يا عبلة لا تغيبي..
يا عبلة
هل من جواب؟!!
واقرأ أيضاً:
المواكبة والحياة!! / تخلفنا أم تأخرنا؟!! / العقل العقل!! / التآلف والتخالف!!