النكران هو فقدان رغبة مواجهة المشكلة بوعي أو لا وعي. أو رفض الاعتراف بوجود أو بشدة الوقائع الخارجية القاسية، أو الأفكار والمشاعر الذاتية المؤلمة.
وفي عالم البشر تتفاعل النفس الأمارة بالسوء مع النفس المطمئنة والنفس اللوامة، لتحقيق النتائج السلوكية وتحفيز الآليات النفسية الدفاعية، من أجل الحفاظ على مسيرة المخلوق البشري، ومساعدته على المروق وسط الشدائد والمحن. والنفس الأمارة بالسوء تتفاعل فيها الرغبة واللذة وقوة العدوان، وتسعى إلى تحقيق المتعة وتقليل الألم، وتحقيق الإرضاء الفوري للرغبات.
أما النفس المطمئنة فهي الميزان المنطقي، الذي يحدد المنافع والأخطار الناجمة عن أي سلوك، أو المحيطة بأي موقف، وقد تتحمل بعض الخسارة والألم من أجل ربح مؤجل، وهي التي تنظر دائما بالخيارات وتمحصها جيدا.
أما النفس اللوامة فهي التي تتحكم بالضوابط الأخلاقية، ومفردات الضمير القائم في أعماق الذات، وهي المسؤولة عن تمحيص الصواب والخطأ أيضا، لكنها قد تميل إلى التطرف والأفكار اللاواقعية حول ما يجوز أو لا يجوز فعله.
وفي واقع تفاعلنا السلوكي، هناك صراع ما بين المتعة واللذة والواقع القائم من حولنا، وبين القيم والأخلاق والمعايير الموروثة، والتي تؤسس محتوى الضمير، وفي هذا الصراع يتجلى دور الآليات الدفاعية النفسية المختلفة، ومنها النكران وما يرتبط به من آليات مساندة. وهي وسيلة لا تحل الموقف المؤدي إلى التوتر والقلق، لكنها تحقق السكينة الداخلية بأساليب الخدعة والتضليل.
وأصحاب هذا السلوك يتصرفون وكأنه لا توجد مشكلة، ويُظهرون المواقف الدفاعية المختلفة، كما أنهم يخفون مشاعرهم وعواطفهم، ويتجنبون الصراع وعدم الاتفاق، ويهربون من مواجهة النتائج السلبية، في محاولة للحفاظ على رباطة الجأش أمام المواقف الصعبة، والتي لا يمكنهم الخروج منها. وفي ذلك ارتداد ونكوص إلى الوراء البعيد، وإخفاء للحقيقة والتوهم بالتصرف بصورة طبيعية.
وأصحابه يصرون على الظهور بصورة جيدة ومثالية، ويتعامون عن كل شيء يتعارض مع هذا التصور الوهمي الخداع، وهم يحاولون تجنب مخاطر التقصير بسبب المشاكل والخسائر الناجمة عن سلوكهم.
ويبدون في معظم الأحيان لا منطقيين، أمام الذين يحاولون أن يواجهونهم بأية مشكلة يريدون لها حلا.
ويبدو عليهم تبلد واضح في الأحاسيس والمشاعر تجاه المواقف التي هم بصددها، وتكون طريقة تفكيرهم سحرية وفنتازية، ويعتمدون على غيرهم في تواصلهم، ويفضلون أن يقوم الآخرون برعايتهم وتقييم سلوكهم، ولا يمكنهم أن يواجهوا الحقيقة المتعلقة بالمشكلة مهما كانت، ولذلك فهم يرفضون ويعادون مَن يواجههم بالحقائق والمشاكل القائمة.
ويتميزون بالتفكير الوهمي والقول بأن كل شيء على ما يرام، وعندما يشتد الصراع ما بين الناكرين والمواجهين لهم بالمشاكل، تراهم يطرحون أفكارا خرافية ويتحدثون وكأنهم في حالة أحلام اليقظة، وبسبب هذه التفاعلات المضطربة يتحقق انحراف مؤذي في التفكير والتبصر والنظر، كما يتصفون بالطرح الغير قادر على حل المشاكل، واتخاذ القرارات الصائبة، مما يُؤزم المواقف ويعقد الصياغات المختلفة في الحياة.
والناكرون يتجنبون العارفين بالمشاكل وأسبابها، ولهذا تراهم في حالة عزلة وانكماش عن الآخرين، لفقدان القدرة على المواجهة الفعالة لهم، وبسبب ذلك يجنحون إلى الانحرافات المتنوعة في التفاعل مع المواقف والمستجدات، ويحيطون أنفسهم بجمهرة من الناكرين المستفيدين من هذا الوضع الشاذ والمنافي لطبيعة الأمور، وعليه فإن المشاكل تتعقد وتتفاقم، العراقيل تتراكم، ولا يستيقظ الناكرون من خدرهم وعدم وعيهم للآليات المرضية، التي يستخدمونها لكي يتخندقوا في معاقل النكران، حتى تجدهم على شفا ويلات المصير.
وفي سلوك النكران يكون الميل واضحا نحو استخدام آليات الإسقاط والتبرير، حيث يتم تبرئة النفس من المسئولية، ورميها على الآخر المتصور أو الموجود فعلا، وتبرير الأفعال السيئة بما يجعلها تبدو جميلة ومسوغة ولا بد منها.
إن النكران هرب صريح من مواجهة المشاكل المؤلمة، والتي يصعب حلها، والسقوط في وديان الفنتازيا الذهنية، والإندحار في خنادق عاطفية آمنة وفقا لسلطة الخدعة والتضليل، التي تتسيد وتمنع الرؤية المعقولة الصائبة، ويشجع على التفاعل الكاذب مع المشاعر والعواطف البشرية، ويساهم في الاحتماء خلف الحواجز وفي المناطق الآمنة الحصينة.
كما يشوّه المواقف ويحرفها بإنكاره لها، مما يساهم في فقدان السيطرة عليها، وتعزيز السلوكيات السلبية، التي تمنع التعامل الصحيح معها، ويؤكد المعتقدات اللامعقولة أو اللامنطقية، وما ينتج عنها من تفاعلات بين الناس، ولكي نتجاوز هذه العلة الفكرية والسلوكية، ونتفاعل بإيجابية وقدرة على الفهم الموضوعي، والتواصل المنطقي والعلمي، لا بد لنا أن نقر بوجود المشكلة، ونفتش عن مفرداتها في أعماقنا، وفي أنماط تفكيرنا وما نقوله ونكتبه، لكي نتعافى من أضرارها التي مزقت الوجود الصحيح، وحولت الحياة إلى انحرافات متوالدة ومعقدة.
وبعد الإقرار بوجود المشكلة ومواجهتها، لابد من التفاعل مع الآخرين من أجل أن نحقق حلا مقبولا لها، لأن الإنكار يدفع إلى التقوقع والخوف من الآخرين، والشك بهم ومواجهتهم بعنف ووحشية.
إن نكران ما هو قائم، والتوهم بأن شيئا آخر غيره، هو القائم والمتفاعل في الحياة، يدفع إلى نتائج لا تتفق ومفردات الواقع المتحرك فيها، بل يحطمها ويصيب الأجيال المتلاحقة بالخدر والخداع والتضليل، ويحرمها من التعبير عن دورها الإيجابي، ولهذا فإن محصلة تفاعلات سلوك النكران، تكون إما مراوحة في ذات المكان، أو تأسنا وتدهورا مشينا ومدمرا.
فهل سنعترف ونواجه ولا ننكر؟!!
واقرأ أيضاً:
إنها العنتريات يا عبلة!! / التآلف والتخالف!! / القوة في الاختلاف!! / فيروس الكلمات!!