واقعنا المعرفي المعيش في عالمنا العربي لا يبشر بالخير في مجال بناء "مجتمع معرفي"... وأنا لا أقول هذا اعتباطاً ولا تشاؤماً ولا جلداً للذات، إذ ليس من منهجي ولا من عقيدتي النهضوية أن أفعل ذلك، ولكنني في الوقت ذاته لا أرضى أن نمارس خديعة لذواتنا ولشعوبنا وخذلاناً لمشروعنا الحضاري عبر السكوت عن الأوهام التي تتلبسنا تجاه مثل هذه المواضيع الخطيرة.
سأكون شفيفاً في الكشف عن "بعض الأسباب الجوهرية" التي تقودني إلى تقرير أن الوضع العربي الحالي لا يمكن أن يقود العرب إلى بناء "مجتمع المعرفة" ولو استمروا ألف سنة وسنة أو امتلكوا مائة ألف جامعة وجامعة. وقبل الخوض في تلك الأسباب، أشير إلى ارتباط "مجتمع المعرفة" بمصطلح "الاقتصاد المعرفي" بعد أن ارتفعت أسهم المعرفة في بورصة الاقتصاديات المعاصرة، وباتت المعرفة تلعب دوراً متنامياً في خلق الثروات وتنميتها وتعزيز المزايا التنافسية للدول والمنظمات على حد سواء.
ومصطلح "مجتمع المعرفة" يشير بشكل عام إلى جملة من المواصفات والمقومات التي تتوفر في المجتمع وتمكّنه من خلق معرفة جديدة، مع القدرة على استخدامها وإعادة توظيفها ونشرها في كافة المجالات بما يحقق الأهداف التنموية وتعزيز التنافسية والابتكارية والإنتاجية لهذا المجتمع.
العرب لا يجرّمون السرقات العلمية!
أخفق "التنوير العربي" في مسارات عديدة، ومن أخطرها في نظري ما يتعلق بالمنهجية العلمية، فقد باء التنوير العربي بفشل ذريع في غرس تلك المنهجية بأبعادها الفلسفية والأخلاقية والإجرائية، بأدلة ساطعة كسطوع شمسنا في رابعة نهارنا المحرق.
حين نتفحص واقعنا العربي، ندرك بأننا في الفضاء العام لا نجرّم "السطو المسلح" أو "غير المسلح" على الأفكار التي يبدعها الآخرون، ففشت فينا "جرائم السرقات العلمية" ولم نعد نكترث لحدوثها، وتورط بها عدد غير قليل من أساتذة الجامعات والباحثين والكتّاب، وأوغلوا في السرقات العلمية في وضح النهار، ولم يفلح التنوير العربي في "التجريم الفكري" لمثل تلك الجرائم، فضلاً عن "التجريم التشريعي" حيث تكاد التشريعات العربية تخلو من القوانين الصارمة المحاربة لتلك السرقات، واكتفت تلك التشريعات ببنود قانونية خجولة في "أنظمة المطبوعات" أو "لوائح الجامعات" ونحوها، مع تعطيل شبه مطلق لها من حيث التفعيل والتطبيق. ونجد هذه الحالة المأساوية المزرية في عموم الدول العربية، وسأضع بعض الشواهد الشائعة:
- السرقات العلمية في الأبحاث التي يعدها الأكاديميون، وهي كثيرة جداً، وقد اكتشفت عشرات الحالات في أكثر من بلد، دون القيام بأي عمل تقريباً، سوى التغطية عليها، وإقفال ملفاتها بطرق مريبة أو غير مقنعة.
- السرقات العلمية في الدراسات العليا، حيث أمسى الدراسون يتجرؤون على نقل صفحات كاملة وربما فصول دون الإحالة إلى المراجع الأصلية، ومع كل ذلك تقبل طروحاتهم ويحصلون على "أوراق" يسمونها زوراً "شهادات".
- السرقات العلمية في الكتب، وهي منتشرة وشائعة جداً، والحالات بالمئات والآلاف.
كيف يراد لنا أن نقيم "مجتمع المعرفة" ونحن نتوفر على هذه الجرائم الهائلة في السياق المعرفي، دون أن نخلق ردود فعل مجتمعية "كافية" فضلاً عن سن تشريعات صارمة أو تحرك لمؤسسات علمية أو قانونية أو مؤسسات المجتمع المدني؟ هل يمكن لسراق المعرفة أن يقيموا مجتمعها؟ كيف نتوهم أننا قادرون على إيجاد مثل هذا المجتمع المعرفي، ونحن نزخر بقصص مؤلمة كقصة "الشيخ" الذي يحمل درجة الدكتوراه والذي سطا على أفكار كاتبة في كتاب منشور، فسرق بعض عتادها المعرفي، ولما أدين بجريمة السرقة العلمية وغرم بعض المال، لم يعتذر وكابر، وقال للمسروق منها: خذي مني ما شئت، وكأنه يقول: اسرقي مني كما سرقت منك، وأنا أبيحك في هذه السرقة، علماً بأنه شخصية شهيرة ويتابعه في تويتر ملايين الناس.
أي واقع بئيس نحياه ويجعلنا نتفاءل ببناء المجتمع المعرفي، وأكاديمي في جامعة عربية مشهورة يسطو على بحث قديم لطالب ماجستير ثم يتقدم به لنيل درجة "الأستاذية" وهو عميد في تلك الجامعة، في واقعة لم نشهد فيها تحركاً من الجامعة ولا من وزارة التعليم العالي في ذلك البلد، بل مر الموضوع ببلاهة وبلادة لا نحسد عليها.
ربما يقول البعض بأن جرائم السرقات العلمية ليست مقصورة على العرب، بل هي موجودة في دول العالم، حتى المتقدمة منها، فأقول هذا صحيح، وأنا أعلم بهذه الحقيقة وأقر بها، ولكني أعلم أيضاً أن تلك الدول التي تعد جيادها للسباق المعرفي تتعامل بصرامة كبيرة مع تلك الجرائم، وتعاقب كل من يثبت تورطه بلا رأفة ولا شفقة، وقد سحبت شهادات دكتوراه من مسؤولين غربيين كبار، وأزيحوا من مناصبهم فور اكتشاف تلك السرقات، وسحبت أبحاث وألغيت في مجلات علمية محكّمة عديدة.
ومثل هذه الصرامة التشريعية والإجرائية والتي سبقتها حركات تنوير حقيقية فاعلة أفلحت في تجريم السرقة العلمية فكرياً ومجتمعياً، وهذا ما لم نفعله نحن العرب، فسراق المعرفة من العرب يمكن أن يكونوا رؤساء أقسام أو عمداء كليات أو رؤساء جامعات أو كتّاباً أو صناع رأي أو وعاظاً دينين أو وزراء أو حتى رؤساء دول، فأي بؤس نعيشه، وأي أوهام بتأسيس مجتمع معرفي نقتات عليها؟
وهنالك مظهر رديء آخر في السياق الأكاديمي والبحثي يجب استجلابه، وهو سرقة جهود الآخرين في مجال البحث العلمي، حيث يقدم بعض الأكاديميين العرب وبالذات المتنفذين منهم كالعمداء ورؤساء الأقسام العلمية على تكليف زملاء لهم أو طلاب دراسات عليا بإعداد أبحاث "علمية" ثم إجبارهم على وضع أسمائهم في تلك الأبحاث، بل تصل الخسة البحثية لدى أولئك السراق إلى نسبة الأبحاث لهم فقط، وإبعاد أسماء من قام بها فعلياً من الزملاء والطلاب، وقد يلجأ بعض الأكاديميين إلى جلب باحثين على نفقتهم الخاصة لإعداد أبحاث لأغراض الترقية العلمية أو النشر العلمي المحكّم أو تنفيذ أبحاث مدعومة، فإذا كانت هذه أوضاع نسبة لا يستهان بها من أكاديميينا وباحثينا العرب، فكيف نحلم بمجتمع معرفي؟
العرب يتزينون بالشهادات الوهمية!
من المظاهر التي تؤكد بؤس واقعنا المعرفي ما يتعلق بالشهادات الوهمية، فقد انتشرت في دولنا العربية بنسب متفاوتة ظاهرة شراء الشهادات الوهمية، واستطاعت عدة جامعات وهمية أن تجني عشرات الملايين من جيوب متبضعي الشهادات الوهمية كجامعة كولومبس (Columbus) وجامعة ألميدا (Almeda)، وجامعة هاملتون (Hamilton) (انظر تحقيق بعنوان: اشتر "ماجستير" .. وخذ الدكتوراه مجاناً في أسبوعين، جريدة عكاظ السعودية، 14/4/2013) وهنالك جامعات أخرى كالجامعة الأميركية بلندن (American University of London) وجامعة أمبسادور ( Ambassador University Corporation) وجامعة ليبرتي (Liberty) (انظر تعميم لوزارة التعليم العالي السعودية حول بعض الجامعات الوهمية: http://www.page2011.net/1/attachment.pdf).
حصل آلاف العرب على مثل شهادات مزيفة من تلك الجامعات الوهمية، وبعضها يمارس نوعاً من الخداع والتضليل، حيث يتم تعيين مشرفين على الرسائل العلمية واتباع بعض الخطوات المنهجية المتعارف عليها في الجامعات "الحقيقية" وذاك من باب ذر الرماد في العيون، لا أكثر وربما أقل، لا سيما أنها تتقاضى رسوما نظير منح الشهادات المغشوشة، مع قدرتهم على تصديق تلك الشهادات من قبل بعض الجهات الرسمية، إمعاناً في التضليل والخداع.
بل إنني أذهب أبعد من هذا، لأقول إن بعض أولئك الذين تورطوا في تلك الجامعات الوهمية لهم نوايا طيبة، تتمثل في إعداد أبحاث علمية جادة في موضوعات يختارونها بأنفسهم والحصول من ثم على شهادات عليا، ومنهم من ينتمي للثقافة والإعلام والتعليم العام، ويحظى بعضهم باحترام كبير في الساحة الفكرية والإعلامية والتربوية، إلا أنه لا يمكن أن يُغفر لهم البتة استمرارهم في "المكابرة" وعدم تمزيق تلك الشهادات و"التزين المغشوش" بـ "حرف الدال" ونحوه، بعد اكتشاف وهمية تلك الجامعات والشهادات التي تصدرها، وبخاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي -كـ"تويتر"- أسهمت في فضح تلك الجامعات وشهاداتها الزائفة، وأوجد البعض -مشكورين- حسابات متخصصة في ذلك، وهو عمل تنويري بامتياز.
ومضات تنويرية لتصحيح المسار المعرفي
في ضوء حقيقة حصول الآلاف على مثل تلك الشهادات المزورة، لم نر للأسف –حسب علمي– من أعلن بأنه قد تخلى عن تلك الشهادات إلا القليل، وهذا يدل على أن مجتمعنا العربي يغط في سبات "الشكلانية المعرفية" التي لا تنسج لنا أي حلم بنهضة معرفية قريبة، إذ استمرت أوضاعنا على هذا الحال الرديء.
وفي نهاية هذا المقال، لعلي أشير إلى جانب إيجابي بغية تعزيزه في مجتمعنا المعرفي، فقد أقدم أحد الحاصلين على شهادات ماجستير ودكتوراه من جامعة وهمية على حرقها أمام الملأ داخل مسجد، معلناً البراءة منها والتخلي عنها والندم على الارتباط بالجامعات الوهمية والتحذير منها، وهو "الشيخ خالد الخليوي" من المملكة العربية السعودية، في بادرة تنويرية نوعية مشكورة، ولعل في ذلك تشجيعا للبقية ولاسيما من المشهورين من الكتّاب والإعلاميين والصحافيين والتربويين والمدربين ورجال الأعمال، وحثهم على المسارعة في حرق شهاداتهم، أو تمزيقها وإعلان التوقف عن استخدام الألقاب العلمية المترتبة عليها.
وبكل شفافية أقول: إن أقدم العشرات والمئات على ذلك الصنيع التصحيحي التنويري، فهذا يعني أننا بتنا نخطو بعض الشيء نحو معالجة أدوائنا المعرفية، وهذا أمر إيجابي بلا شك، مع ضرورة تطوير الوعي المجتمعي لمحاربة السرقات العلمية بكل ضراوة وتجريمها فكرياً وقانونياً، مع تأسيس الجمعيات والهيئات المناهضة للسرقات العلمية والشهادات الوهمية، إن أريد لنا أن نحلم بمجتمع معرفي يقودنا إلى بناء اقتصاد معرفي في ظل حقائق تناقص الثروات الطبيعية كالنفط والغاز، بما يحتم علينا تحريك تروس إبداعنا في سائر ميادين المعرفة والاقتصاد.
أما إن أخفقنا في عمل ذلك واستمر الإنسان العربي في المكابرة وخلق المعاذير والتبريرات أياً كانت، فيجب على العرب حينذاك الكف عن الهذيان بطلاسم: "مجتمع المعرفة"، "خلق المعرفة"، "نشر المعرفة"، "توظيف المعرفة"، "إعادة تشكيل المعرفة"، "إدارة المعرفة"، "الصناعات الإبداعية"، "المنظمات المتعلمة"، "اقتصاد المعرفة"، "الاقتصاد الرقمي" ونحو ذلك، فهي طلاسم ولغو، لا تعني لهم شيئاً سوى الانتفاخ المعرفي الفارغ!
المصدر:الجزيرة
واقرأ أيضًا:
خطورة خلق صور ذهنية سلبية! / للمنصف المغيّر.. الديناميكية اللولبية / ذئبان يفترسان الفساد العربي.. التوثيق والتدويل