القوة تتناسب طرديا مع المعرفة. فالشعوب الضعيفة لا تعرف، والقوية تعرف.
الشعوب الضعيفة لا تقرأ، والقوية تقرأ.
والحضارة تبدأ بالمعرفة.
وأبناء الرافدين اخترعوا أبجديتهم وتعلموا، وصاروا بشرا عارفا، فصنعوا وجودهم الحضاري المتميز.
والإسلام بدأ بالدعوة إلى القراءة.
وأول كلمة خاطبت بها السماء الأرض هي "اقرأ"
"اقرأ باسم ربك الذي خلق"
"اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"
فالقراءة معرفة.
واقرأ، أي تفكّر وتعلم، وأدرك وازدد معرفة وفهما، لكل ما يدور حولك، لكي تعرف خالقك، لأن المعرفة توصلنا إلى الإيمان، وتقربنا إلى الله تعالى وتشيع المحبة والألفة بين البشر.
بينما الجهل، يبعدنا عن الله ويرعى الشرور والموبقات، ويكون مرتعا للكراهية والبغضاء.
وكانت رسالة النبي الكريم (ص) ترتكز على المعرفة، والتفكير والإدراك العقلي العميق والشامل.
وقد تكررت كلمة يتفكرون في الآيات القرآنية.
ولهذا تحول الجامع إلى مدرسة للعلم والمعرفة، وكثرت مجالس العلم، وتخرج من أول مدرسة إسلامية كان يديرها الرسول الكريم (ص)، العشرات من الصحابة العارفين المتنورين، الذين حملوا راية العلم والإيمان إلى أصقاع الأرض المختلفة.
فانتشر الإسلام بالمعرفة، لأنها القوة الأعظم في مسيرة البشرية.
فالمعرفة أقوى من السيف وكل عناصر القوة المادية المزعومة.
فالقوة الحقيقية، قوة العقل والقلب والنفس والأخلاق والضمير، وهذه لا تتحقق إلا بالمعرفة. ولهذا كلما ازدادت مساحة الجهل بين الناس، كلما أصابهم الضعف، وانهارت قدراتهم في الحفاظ على تماسكهم، وسلامة وأمان مجتمعاتهم.
ومن هنا فأن الحل الأحسن لكل المشاكل القائمة في أي مجتمع، هو إشاعة المعرفة ورفع شعار "اقرأ"، لأن القوة تعتمد على المعرفة، ولا يمكن لأية قوة أن تعبر عن إرادتها من غير المعرفة، وما كان الجهل يوما مصدرا لقوة فردية أو جماعية.
فالعرب في جاهليتهم لم يكونوا قوة، لكن المعرفة التي أنعم الله تعالى بها عليهم، بقيادة الرسول الكريم (ص)، قد جعلت منهم قوة تسيدت الأرض لأكثر من خمسة قرون ، ولازال نور معرفتهم وضاءا في أرجاء الدنيا.
والمعرفة والقوة تتفاعلان وتتداخلان، فيؤدي بعضهما إلى البعض الآخر، كما يفعل الجهل مع الضعف أو بالعكس.
المعرفة والقوة يعبّران عن طاقات الوجود المتشابكة، المتفاعلة القادرة على إنجاب الجديد، وتحقيق التواصل الخلقي واستمرار الحياة.
وفي الجانب الآخر، فإن الجهل والضعف ينخران أعمدة الحياة، ويسقطان خيمة صيرورتها، ويدمران وافر ظلالها ونمائها العظيم.
المعرفة خبرات ومهارات مكتسبة، من خلال التجربة والدراسة والتثقيف، والفهم النظري للموضوعات والدلالات. وهي ما نعرفه في أي حقل اختصاصي أو عام، وهي حقائق ومعلومات مرتبطة به ومميزة لملامحة ومواصفاته.
وكذلك الوعي والإدراك وألفة الحقائق والمواقف بالتجربة والتفكر والتعلم.
واستعمال القوة سلوك بشري متوطن، منذ أن بدأ البشر العيش في مجتمعات، بدلا من حياة الكهوف والوحشة. والقوة تعبر عن نفسها، من خلال التفاعلات اليومية الفردية والجماعية، وعلى مستوى الأمم والشعوب.
مثلما هي واضحة في تفاعلات الأحياء الأخرى في الغابة وفقا لقانون الغاب المتحكم بوجودها. القوة تعني السيطرة على الأشياء والآخر.
وفي عالمنا المتناقض، هناك سيطرة متبادلة ما بين العناصر، التي تريد أن تفرض سيطرتها على بعضها. فالمسيطر على الآخر، لا يكون حرا في سيطرته، لأنه قد أخضع قوة أخرى تريد السيطرة أيضا، وهذا يعني أن أية قوة تسيطر تضع في معصمها قيد القوة المُسيطر عليها، بدرجة تتناسب ومقدار تلك القوة، ومدى معرفتها وطاقتها التواقة إلى التمكن من القوة المسيطرة عليها، أو المتورطة في تفاعلات سلبية معها، وهذا يدفع إلى الضعف والتجهيل، وخسارة التفاعلات الكثير من النتائج الإيجابية، ويقيد حركة الحياة ويدفع بها إلى الخلف كثيرا.
بينما المعادلة السليمة، أن يكون التفاعل إيجابيا متكافئا وخاليا من هذا النزق السلبي، الذي تديره كوامن الشرور في أعماق النفوس، وتدفع به إلى الهلاك متوهما بأنه قد سيطر، وتمكن وأشبع غرائز غروره وشهواته الغابية.
ولهذا فإن القوى المتصارعة لا يمكنها أن تعيش إلا في حالة قلقة، تؤدي إلى انهيار أحد أطراف الصراع عندما تتراكم أسباب سقوطه، وتتفاعل لكي تعبر عن ضعفها الكامن، الذي أنجبته القوة التي فقدت زمام المعرفة، وتأسرت بمحنتها وجهلت عصرها، ومعطيات التفاعل الناجمة عن فرضها لإرادتها.
وهكذا فأن القوى عندما تتصارع تسبب ضعفا، لأنها تغفل الجانب الآخر الأساسي للقوة وهو المعرفة. بينما المعارف عندما تدخل في صراع فإنها تنمي القوة، وتوفر العديد من الأسباب الضرورية لإقامة معالم الاقتدار والعلاء، الذي يمنح البشرية الشعور بالسلامة والأمان ويدفعها إلى العطاء المفيد.
إن عزل المعرفة عن القوة خطأ بشري مرعب، يؤدي إلى مآسي كبيرة، ويلقي بالبشرية في أتون الحروب النكراء، التي تقضي على الأبرياء وتملأ الأرض فقرا وحزنا وجوعا وآلاما.
وعليه فأن البشرية لكي تحقق السلام وتنعم بالأمان، عليها أن تشيع المعرفة، لتمنح الشعور بالقوة لكل مخلوق على وجه الأرض، وبهذا يتوفر التوازن النفسي والعقلي ما بين البشر، ويركن كل واحد منهم إلى احترام الآخر وتقدير جهده ورأيه، لأنه يعرف مثله ويعشق الإدراك والتنوير.
فالمعرفة طريقنا الأفضل للأمن والسلام والمحبة والعدل، والقوة المتوازنة التي تردع أطماع النفوس الشرهة، للسيطرة وتوفير أسباب إرضاء الرغبات الحامية التي تأبى الرضا والإقناع.
فهل سنعرف؟
ويكون كل منا قويا ومتباهيا بأخيه الإنسان.
أم سيدوم الجهل فينا، ويتنامى الضعف وتتفجر في مجتمعاتنا كل عناصر الهلاك والضياع، والذل والهوان بسبب جهلنا وضعفنا المرير.
وفي الختام لا ننسى دور المكتبة في المعرفة، وتنمية القوة الاجتماعية وتوفير أسباب التفاعل الخلاق فيما بينهم، فالحضارات والإمبراطوريات المتمكنة تهتم أكبر الاهتمام بالمكتبات.
وفي تأريخنا القديم كانت مكتبة آشور بانيبال تحتوي ثمانية وعشرين ألف رقما طينيا أو كتاب، وهذا يدل على أن المعرفة كانت من ضرورات وأسباب قوة الإمبراطورية الآشورية.
واليوم في العالم المتقدم يكون للمكتبة دور في حياة مجتمعاتها، بدءا من القرية إلى المدينة الكبيرة.
وهيهات أن نجد في قرية من قرانا مكتبة، وعندما تمتلك كل قرية في بلداننا مكتبة عامة، عندها سيعرف العالم بأننا أقوياء.
فالمعرفة أداتنا ووسيلتنا في إحداث التغيير والتأثير في العالم من حولنا.
"المعرفة هي القدرة"
"قيمة المرء ما يعرفه"
وقيمة أي مجتمع بما يعرفه، لأنه أما سيكون قويا أو ضعيفا وفقا لذلك، لأن المعرفة قوة والجهل ضعف.
واقرأ أيضاً:
عمارة الأفكار!! / التفكير العلمي المفقود!! / عجائب الصين وعجائبنا!! / على مائدة الغداء!!