لعل أي مواطن مصري متابع لما جرى من بعد ثورة يناير يستطيع أن يرى دورا واضح السلبية للشرطة المصرية في غياب الأمن والاستقرار بعد الثورة... وهذا فهمه الناس على أنه عقاب لهم من الشرطة... وفسره البعض بأنه عدم قدرة على مواجهة الجمهور المصري الثائر عليهم وأنهم بحاجة إلى ترتيب الأوراق وما شابه، وكيف يتعامل الباشا مع الخرسيس معاملة أخرى تعتبر الخرسيس إنسانا، وكيف يتعامل الضابط مع متهم دون سب ولا ضرب وكلها أشياء تحتاج تدريبا...
وفسر الطيبون ذلك بأنه دليل على أهمية إعادة التأهيل النفسي لأفراد الشرطة، وفي تلك الفترة انطلقت محاولات من المصريين العاملين في المجال النفسي والاجتماعي لرأب الصدع مع الشرطة... عاصرت بنفسي إحداها وهي مبادرة نفسانيون من أجل الثورة حيث أعددنا وقدمنا مشروع الصحة النفسية للشرطة والشعب لوزارة الداخلية فعرضت على وزيرين متتاليين، وباختصار رفض المشروع بصلف وتعالي وجاءتنا ردود معناها: "عالجوا المجتمع لا الشرطة!"..."اشمعنى وزارة الداخلية تحتاج تأهيل؟! ما كل حاجة في مصر محتاجة!!"..... رأت وزارة الداخلية المصرية أن تضمد جراحها بنفسها إذن ولم تطلب معونة من أحد ولا قبلتها من أحد..... فهل يا ترى كتب لها النجاح؟!
حدثت بعد ذلك أحداث متعددة وتقرر أو بدا أنه تقرر أن المجتمع سيسامح الشرطة، وما فتأ يستدعيها لتحميه من اللصوص والبلطجية والمخالفين للقانون، جاءت الشرطة متثاقلة ومتدللة ومذبذبة في أحسن الأحوال في الأداء، فواقع الحال كان أن الشرطة استمرت معيوبة الأداء منذ استلام المجلس العسكري يوم 11 فبراير 2011 لمقاليد الأمور وحتى 3 يوليو 2013 عندما استرجعها علنا (والواقع أنها ظلت سرا في يده) طوال تلك الفترة وطوال تلك الفترة أيضًا استمر اعوجاج الشرطة عن أداء واجباتها لا سيما شرطة المرور.... وربما في فترة الحكم العسكري علل البعض تقاعس الشرطة بأنه بسبب تواجد الجيش وأنه عندما يبتعد الجيش تسترد الشرطة عافيتها وتبدأ في العمل.
إلا أنه عندما انتهت المرحلة الانتقالية وانسحب الجيش من المشهد وسلمت مقاليد الأمور (على الأقل علنا) إلى الرئيس المنتخب... رغم ذلك استمر تقاعس الشرطة وتثاقلها وتقصيرها... حتى بدأ الطيبون يفترضون أن هناك مشكلة تعوق عمل رجال الشرطة ربما هي حاجة الوزارة إلى التحديث؟، حاجة العاملين بها إلى زيادة المرتبات أو الحوافز؟..... وربما أتاحت لي علاقاتي واهتماماتي الاجتماعية أن أعرف أن بعض محاولات حقيقية كانت تتم من داخل جهاز الشرطة لإصلاحه وتحديثه وتحسين صورته... إلا أن الناس لم يلمسوا ذلك فعليا في الشارع.... وبقيت الحوادث التي لا يمكن حدوثها عمليا إلا في حالات الانفلات الأمني متكررة حتى سمعنا كلاما عجبا عندما تعلق الأمر بمقرات الأحزاب خاصة الحرية والعدالة حين أعلنت الشرطة أنها لن تتمكن من حراسة المقرات وأن على أصحاب كل مقر حمايته.... وبقي الانطباع عند كثيرين بأن الشرطة متواطئة بشكل أو بآخر لإفشال حكم الإخوان المسلمين وأن المشكلة لم تكن عدم الانسجام مع الجيش..... ورغم ذلك ظل الشعب الطيب -كلما طالت المدة- يتوقع أن الشرطة ستكف عن ذلك العدوان السلبي Passive Agression وتبدأ في حمل مهامها تجاه الوطن.
ولم تخل تلك الفترة من 11 فبراير 2011 وحتى 3 يوليو 2013 من إشارات وعلامات تدل على وجود مشكلة حقيقية تتعلق بموقف وزارة الداخلية من التدين الإسلامي بشكل عام... مثلا أثيرت قضية إطلاق اللحية بالنسبة لضباط الشرطة ونسبت أقوال لبعض قيادات الشرطة بدت شاذة في مناخ مصر الرسمي (الذي بدا أنه إسلامي المزاج) في ذلك الوقت، كذلك تواترت اتهامات رجال الشرطة للإخوان المسلمين ولأفراد من حماس باقتحام السجون المصرية... وهذا رغم علم أغلب المصريين بأن ما حدث من فتح للسجون كان تنفيذا لأوامر عليا صدرت إلى ومن كبار رجال الداخلية... إلا أنك كنت تسمع من حين لآخر أحد الشرطيين يردد أن الإخوان اقتحموا السجون... وأن هناك أسلحة تهربها مصر لحماس وأسلحة من حماس لمصر وأن حكومة الإخوان تتواطأ وتتآمر...... كل هذه الإشارات لا أدري كيف لم تنبهنا إلى مرض الجزء المسمى بالداخلية من جسد الأمة المصرية فهو جزء مريض! من المجتمع وله موقف خاص وملتبس من الالتزام الديني وأرجو الانتباه إلى أنني لا أقصد التعميم وإنما قصدت إعطاء النموذج المثالي لما أتصوره.
وعندما حدث الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 كان المفترض أن أداء الشرطة سيكون رائعا بعده باعتبار أنه لم تعد من حجة لوزارة الداخلية ولا لمباحث أمن الدولة -أو جهاز الأمن الوطني- في التقاعس فها هي حكومة الإخوان ورئيس الجمهورية المنتمي للإخوان وقد أبعدوا عن المشهد السياسي كله،... وللوهلة الأولى بدا أن وزارة الداخلية استعادت عافيتها وتمنى الناس مزيدا من الأمن والانضباط.... إلا أن الأمر لم يكن بهذه البساطة!
منذ اللحظات الأولى للانقلاب كانت أجهزة الشرطة القمعية على أهبة الاستعداد فتم إغلاق أغلب القنوات الإسلامية التي تصدر من مصر واعتقال العاملين بها... بينما البيان الانقلابي لم ينته بعد... ثم تتالت أنباء القبض على فلان وإصدار أمر بالقبض على علان! وبدأ الناس يتناقلون الحكايات عن المواقف الاجتماعية التي يظهر فيها من أفراد الداخلية صلفهم وتعاليهم القديم المعهود، وبدأ العاملون السابقون في الأجهزة الأمنية يظهرون في نفس أماكنهم التي غابوا عنها منذ ثورة يناير... وغير ذلك وغيره من الأشياء التي يظنها المتعجل السطحي دليلا على استرداد العافية والحقيقة أنها دليل على السلوك المرضي غير المسئول كما سأبين....
جاءت الهجمة الأمنية على القنوات الإسلامية والعاملين فيها مذكرة بما كان يحدث لا أيام الرئيس المخلوع بل أيام الرئيس عبد الناصر (وكانت أسوأ أيام جهاز مباحث أمن الدولة مع المصريين المعارضين بغض النظر عن انتماءاتهم)... وربما لو اكتفى الانقلابيون بعزل الدكتور محمد مرسي فقط لكان للمصريين موقف آخر، إلا أن الإجراءات التي أعلنها الانقلاب جاءت تشير إلى أنه انقلاب على كل ما قام به الشعب منذ الثورة... وهو ما استفز مشاعر قطاع كبير من المصريين، وكذلك جاءت الاعتقالات المتتالية وبالأسلوب المخابراتي الذي بدا يشوه أكثر مما ينفذ القانون، كما حدثت تصرفات صغيرة من أفراد الشرطة رصدت هنا أو هناك فيها تشفٍ واضح في الإسلاميين بل في كل المصريين وإعلان عن عودة الاستعلاء والاستقواء والبلطجة الشرطية التي لم ينسها المصريون بعد، باختصار لم تستطع الشرطة أن تمسك نفسها قليلا أو تكتم فرحتها فراحت تستعيد أفعالها الاستعدائية والاستعلائية مع الإسلاميين وغيرهم ومع عامة الناس... (بعضهم الآن يحكي عن تغير في طريقة تعامل الضباط مع الحشود أو الطوابير في مؤسسات الدولة المختلفة كالمرور أو السجل المدني...إلخ بما يمثل رجوعا عاجلا إلى زمان عز الشرطة في مصر).
جاء بعد ذلك ومعه سلوك أمني مفرط الغرابة تتخذه الشرطة المصرية في تعاملها مع المحتجين على الانقلاب إذ بدا تعاملها على النقيض تماما مما اعتاده المصريون بعد ثورة يناير، فبينما كانت تقف عاجزة عن التعامل الخشن مع المتظاهرين وعن حماية المنشآت ومتخاذلة بوضوح عن دورها المجتمعي على مدى حوالي سنتين بعد الثورة وجدناها مفرطة البطش والتوحش في تعاملها الآن مع المعارضين، ثم بدت لنا تستعين بالبلطجية علنا أمام الكاميرات فقد كانت في الماضي قبل ثورة يناير تستعين بهم سرا لكنها الآن –حسب الروايات المتكررة- تحملهم في سياراتها وتنزلهم ليقوموا بالجولة الأولى من الهجوم على المتظاهرين والتي تولد عنفا ثم تتدخل الشرطة بعد ذلك بحجة العنف ثم ترعى هروب البلطجية وتجهز على المتظاهرين السلميين! الشرطة أو بعض رجالها المنحرفين من الانقلابيين كانوا غير قادرين على ضبط النفس وانتظار لحظة أفضل للانتقام!، فكأنما أكدوا للناس ما أحسوه من تواطئ الشرطة مع الانقلابيين والتواطأ مستهجن في الضمير المصري... ثم استخدامهم العنف الوحشي في التعامل مع متظاهرين سلميين في رمسيس وفي الإسكندرية وفي المنصورة وفي مجزرة المنصة التي روعت العالم وفي.... وأخيرا وبدم بارد تصريح بعض رجال الشرطة إعلاميا بفرحتهم بما سعوا إليه وحصلوا عليه، كل هذا في وقت تسيل فيه الدماء في مصر.
هذا النوع من السلوك لا ينمُّ عن سواء نفسي بحال من الأحوال، وهو ما يمثل خطرا حقيقيا يواجه الشعب المصري كله فحين نصف جهازا كجهاز الشرطة –بلا تعميم- في بلد كمصر بأنه مريض (معرفيا وسلوكيا) في تعامله مع الشعب وأنه يأبى إلا أن يكون سيدا وباشا وإلا فلن يقوم بحفظ الأمن! حينذاك نكون نتحدث عن كارثة نفسية اجتماعية على وشك الوقوع..... وكذلك حين نتحدث عن سلوك الأبطال العائدين من إجازة 25 يناير 2011 من جهاز أمن الدولة أو قوات مكافحة الشغب أو الأمن المركزي... إلخ المسميات كثيرون من هؤلاء يفسرون ما يحدث في مصر بأنها بلدهم وعادت إليهم، وتبدو نبرة التعالي متسللة بفرح وسرعة في تصرفاتهم... تأثير ذلك في نفوس المصريين حتى لو ارتضوه سيكون أثرا وخيما مع الأسف.
وأخيرا حين نصل إلى الشارع المصري المنفلت (والذي يعتبر انفلاته أحد أهم أسباب استدعائنا الواعي وغير الواعي لتوحش الشرطة) يظهر للناس عور حالة الأداء الشرطي وقصورها المتفق عليه في كل لحظة من اللحظات في الشارع المصري، فرغم الظهور الذي يبدو أكثر مما سبق من بعد 25 يناير إلا أن ظهور الجيش الآن أكثر... والأمن ما يزال مفتقدا بدرجة كبيرة والانضباط ما يزال مفتقدا بدرجة أكبر والشرطة تبدو عاجزة عن عقاب المنفلتين... ربما خوفا من التسبب في أي صراعات مع الجماهير.. وحين يتزامن العجز عن ضبط الشارع وتحقيق الأمن فيه مع سلوك فاجر وحشي تجاه المتظاهرين السلميين -أسوأ من كل ما شهد عهد مبارك الأسود- ويتم التعميم الشديد عليه داخليا، إذ تتجاهل كل القنوات المصرية الفضائية الأمر فضلا عن الخطاب التبريري الرخيص... والكذب الذي لم يعد ينطلي على قطاعات كبيرة بل ومع متابعة برامجها وعروضها الرمضانية المميزة وتجاهل أن أرواح أكثر من 100 مصري قد أزهقت على يد الداخلية ومنتسبيها)، كل هذا يجعل المشاعر أسوأ والمآلات أقسى وأمر.
ولعلني أختتم بخلاصة قصيرة عن رؤيتي –دونما تعميم- لدور تقوم به بعض قطاعات الشرطة المصرية بدأ بالتواطئ مع الثورة المضادة، وانتهى بالتحالف مع الانقلاب العسكري.... وإن من العلامات -المؤكدة لوجهة نظري تلك- والتي يجب ألا ينساها المصريون أن الشرطة المصرية سلكت سلوكا منحرفا منذ ثورة 25 يناير ولا يوجد أي شيء يثبت أنهم تفاعلوا تفاعلا إيجابيا أو برئوا من عقدهم النفسية خاصة عقدة الباشا مقابل المواطن الخرسيس وصاحب السطوة مقابل العبيد!... وتكون الشرطة طبقا لهذه الرؤية قد خدمت الثورة من حيث كانت تظن أنها تؤذيها لأنها فضحت الانقلابيين وفضحت تواطأ كثيرين من رجالها معه.... ثم لم تضبط نفسها وراحت تنتقم وتتشفى وهو ما فطنت إليه قطاعات متزايدة من المصريين.... وما تزال أخطاء جهاز الشرطة متتالية ومؤلمة و-بغض النظر عما تؤول إليه حال مصر سواء انتصر الانقلاب أو الثورة التي تلته- لا مناص من الانتباه إلى هذه المشكلة بين الشعب والشرطة، ولابد قبل الحديث عن كيفية التعامل نفسيا واجتماعيا مع ذلك، لابد أن تتفق معنا الداخلية المصرية على أن العاملين في جهاز الشرطة يحتاجون تأهيلا مثلما تحتاج الناس في مصر لكنهم الأهم والأكثر فائدة إذا بدأنا بهم.
واقرأ أيضًا:
مسار الثورة 8 يوليو .... صباح القتل .... / الثورة بحق وحقيق والثورة تمثيل ! / نظارة السيسي السوداء نهاية تمثلية الثورة !