يمكن البحث في الانفصال من عدة زوايا وأولها هو المصطلح نفسه. هناك العديد من المصطلحات في الصحة النفسية التي لا تخلو من الغموض سواء كان ذلك في مجال الممارسة المهنية أو في الاتصال بين الطبيب أو المعالج النفسي ومستخدم الخدمات النفسية. من أكثر هذه المصطلحات غموضاً اليوم هو مصطلح الانفصال Dissociation .
يستعمل الكثير من العاملين في الصحة النفسية مصطلح الانفصال في تفسير أو تعليل ملاحظات على سلوك المريض وأعراضه. يتم استعمال هذا المصطلح بطرق عدة مثل:
٠ هو الآن ينفصل Dissociating .
٠ هذه الأعراض انفصالية Dissociative .
٠ مصاب باضطراب انفصالي Dissociative Disorder .
٠ يستعمل عمليات دفاعية انفصالية Dissociative Defences .
هذا الاستعمال الشائع يؤدي إلى استنتاج واحد فقط وهو غموض هذا المصطلح ومعناه4. متى ما كان المصطلح الطبي النفسي غامضاً كثر استعماله لتفسير ما لا يستطيع الطبيب النفسي كشفه أو تفسيره بصورة علمية.
الزاوية الثانية التي تتعلق بالانفصال هو علاقته بمفهوم الهستيريا. المصطلح الأخير انقرض أو قارب على الانقراض من الممارسة المهنية في الصحة النفسية، ولكنه لا يزال متخفياً خلف اضطرابات نفسية متعددة منها اضطرابات الشخصية والاضطرابات الجسمانية والاضطراب التحولي Conversion Disorder . هذه الاضطرابات طالما يصاحبها استعمال ظاهرة الانفصال بل وحتى تشخيص اضطراب الانفصال.
كذلك يكثر استعمال الانفصال كتشخيص أو عملية نفسية في ما يسمى بالمتلازمات الملزمة بالحضارات Culture Bound Syndromes . هذه الاضطرابات النفسية التي تتواجد في بعض الحضارات ومنتشرة في جميع قارات العالم يتم حصرها أحياناً بأنها مجرد اضطرابات انفصالية.
يفسر البعض الاهتمام بالانفصال شيوع تشخيص اضطراب الكرب التالي للصدمة (Post Traumatic Stress Disorder (PTSD. يصنف البعض الاضطراب الأخير على أنه ناتج من عملية الانفصال5 أو هو بحد ذاته اضطراب انفصالي كما يشير إليه التصنيف العاشر للاضطرابات العقلية الصادر من منظمة الصحة العالمية.
لا تقتصر أهمية الانفصال في مجال الممارسة الطبية وإنما له أبعاد اجتماعية متعددة. هناك الكثير من الطقوس الاجتماعية والدينية التي يربطها الكثير بالانفصال وأحدها على سبيل المثال بعض الطقوس الإسلامية الصوفية. كذلك يشير البعض إلى أهمية استعمال الانفصال في التنويم المغناطيسي والأحلام والسحر وغيرها.
مراحل الانفصال
الإنسان في حالة الوعي الكامل يدرك استمرارية جسده وشخصيته وذكرياته وأفعاله وإدراكه. هذه الاستمرارية التي يدركها الإنسان تتجاوز محيط الفرد إلى بيئته. بعبارة أخرى يمكن القول بأن الإنسان في حالة الوعي يدرك استمرارية نفسه مع محيطه.
هذه الاستمرارية قد يحدث فيها انقطاع لأسباب عدة منها الإرهاق والقلق وتلاحظ الإنسان في حالة شرود وانفصال أو سحب من محيطه. تراه لا يستمع إلى حديث الآخرين وكأنه في عالم آخر. هذه الحالة من السحب Disengagement هي من أبسط ظواهر الانفصال التي يمر بها كل إنسان.
المرحلة الثانية من مراحل الانفصال هي ما يسمى بتبدد الشخصية أو الإنية Depersonalization . في هذه المرحلة يشعر الإنسان بأن هناك انقطاعا في استمرارية نفسه أو كيانه والكثير يوصف الظاهرة وكأن الفرد في حالة مشاهدة مستمرة لنفسه. وصف الإنسان لهذه الحالة لا حدود له وهناك من يوصف الحالة وكأنه تجزأ إلى عدة مقاطع وبأشكال هندسية متعددة.
المرحلة الثالثة التي قد تعقب الثانية أو تحدث في نفس الوقت أو حتى بمفردها هي تبدد الواقع Derealisation . الكثير من الأفراد يوصف المحيط الذي هو فيه أو سلوك من حوله وكأنه مسرح يتفرج هو عليه لوحده. لا اتصال به مع المسرح ولا مع من هم على خشبة المسرح.
أما المرحلة الرابعة من الانفصال فتولد إما من جراء تكرار التجارب الثلاثة أعلاه أو تكون ظاهرة نفسية بحد ذاتها. يشعر الإنسان أحياناً بتقلص عاطفي Emotional Constriction يبدو واضحاً في تفاعله مع الآخرين. هذا الشعور يختلف عن الاكتئاب ولا يصاحبه أعراض اضطرابات النوم أو الشهية.
أما المرحلة الخامسة من الانفصال فهي تتعلق بالذاكرة وتسمى بفقدان الذاكرة الانفصالي Dissociative Amnesia . يبدأ الفرد بحجب بعض الذكريات غير المرغوب فيها المشحونة بالألم والشعور بالذنب. خير مثال على ذلك تعرض الأفراد لتحرشات جنسية أثناء الطفولة التي يتم حجبها عن ذاكرة الإنسان لفترة طويلة. هذا الحجب عن الوعي قلما يكون دائمياً وترى الذكريات تعود إلى الذاكرة في لحظات لسبب أو لآخر.
أما المرحلة الأخيرة من الانفصال فهي أكثر ظواهر الانفصال جدلاً2 وتسمى اضطراب الهوية الانفصالية (Dissociative Identity Disorder (DID هناك مصطلح آخر شائع الاستعمال في الأوساط الإعلامية والأدبية وهو اضطراب الشخصيات المتعددة3 Multiple Personalities. تصور الأدبيات الفنية أحياناً تقمص الإنسان لشخصيات متعددة ولفترة زمنية طويلة. يتقمص الإنسان شخصية معينة ويتخلص منها بعد فترة ليتقمص شخصية أخرى بعد فترة بدون وعي منه. الكثير من العاملين في مجال الصحة النفسية يشكك في وجود هذه الظاهرة. صور الأستاذ الكبير الراحل إحسان عبد القدوس الشخصيات المتعددة في رواية بئر الحرمان.
ما هو الانفصال؟
هذا السؤال يتعثر الإجابة عليه من قبل الكثير من العاملين في الصحة النفسية. هذا الارتباك يتجاوز الممارسة المهنية إلى مجال البحوث العلمية كذلك. ينظر البعض إلى الانفصال على أنه آلية دفاع غير شعورية Unconscious Defence Mechanism وظيفتها تكيف الإنسان لظروف وأزمات نفسية تواجهه بين الحين والآخر. هذا التعريف ليس من السهل القبول به لتعدد مراحل أو ظواهر الانفصال يضاف إلى ذلك أن الإنسان في الكثير من الحالات يشكو من الظاهرة نفسها على عكس عمليات الدفاع الغير الشعورية التي لا ينتبه إليها الفرد.
من جراء ذلك يتوجه البعض إلى تعريف الانفصال كعملية نفسية Psychological Process بحد ذاتها. هذه العملية متعددة الأسباب والظواهر ولكن العملية نفسها واحدة. رغم أن هذا التعريف أكثر وضوحاً من الأول ولكنه لا يساعد أحياناً في تفسير تعدد الظواهر المختلفة والانتقال من مرحلة إلى أخرى وخاصة التشنجات الانفصالية Dissociative Convulsions التي تشبه الصرع.
الاضطرابات الانفصالية يتم تصنيفها في جميع المجلدات التشخيصية. هناك حقل خاص للاضطرابات الانفصالية1 في المجلد التشخيصي الإحصائي الخامس للجمعية الأمريكية للطب النفسي DSM V . يشمل هذا الحقل:
1- اضطراب الهوية الانفصالي Dissociative Identity Disorder .
2- فقدان الذاكرة الانفصالي Dissociative Memory Loss .
3- اضطراب تبدد الإنية\ الواقع الانفصالي .
4- اضطراب انفصالي آخر معرف .
5- اضطراب انفصالي غير معرف .
المصادر:
1- American Psychiatric Association (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders-V . Arlington, VA, USA: American Psychiatric Publishing.
2- Gleaves D. H., May M. C., Cardeña, E. (2001). "An examination of the diagnostic validity of dissociative identity disorder". Clinical Psychology Review 21 (4): 577–60.
3- Kluft R(1991). Clinical Presentations of Multiple Personlaity Disorder. Psychiatric Clini North Am 14:695 -719.
4- Lynn, SJ et al. (2012). Dissociation and dissociative disorders: challenging conventional wisdom. Current Directions in Psychological Science 21: 48–53.
5- Steiner, H.; Carrion, V., Plattner, B., Koopman, C. (2002). Dissociative symptoms in posttraumatic stress disorder: diagnosis and treatment. Child and Adolescent Psychiatric Clinics North America 12: 231–249
واقرأ أيضاً:
مستقبل الطب النفسي أو نهايته (البحث عن تصنيف عربي ؟)/ اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ا.ن.ا.ف.ح في البالغين: العلاج
التعليق: أنا ألخص موضوع الانفصال في كلمة disconnecting
سواء مع مع الذات أو مع الناس أو مع الأماكن أو كلهم.
ما فهمته من المقال أن المتخصصين لم يفهموا الانفصال بعد ولكنني لم أفهم :
"يفسر البعض الاهتمام بالانفصال شيوع تشخيص اضطراب الكرب التالي للصدمة (Post Traumatic Stress Disorder (PTSD. يصنف البعض الاضطراب الأخير على أنه ناتج من عملية الانفصال 5 أو هو بحد ذاته اضطراب انفصالي كما يشير إليه التصنيف العاشر للاضطرابات العقلية الصادر من منظمة الصحة العالمية".
وفي انتظار المقالات التالية للمقدمة.