كتبت وكتب غيري عن الحالة النفسية للإسلاميين بعد الانقلاب باعتبارهم الطرف المصدوم والمأزوم والمظلوم والمهزوم.... فذهب د. محمد المهدي يصف الحالة وكأنها نموذجا من نماذج رد الفعل لصدمة الفقد Reaction to Loss المبنية على نظرية بولبي Bowlby ، فتحدث عن فترة صدمة Shock ثم فترة إنكار Denial لما حدث ثم مساومة Bargaining ثم اكتئاب Depression وأخيرا فترة أو مرحلة تعافي Recovery .... بينما رأيت أن استدعاء نموذج رد فعل الإنسان للكارثة الاجتماعية Social Disaster وليس للحدث الصدمي الفردي هو ما يمكن أن يساعدنا في فهم ما حدث، أي أن ما حدث يمثل كارثة ألمت بالإسلاميين كمجموع وليس فقط كأفراد،.... أشرت أيضًا إلى أن الإسلاميين ما يزالون في مرحلة تلقي أثر ما حدث ووقعه عليهم ومرحلة اتخاذ ما يلزم من تدبيرات... وهم لم يعلنوا انهزامهم بل مصرون على الرفض والمقاومة.... إلا أن كل من تحدث بشأنهم في بداية الأمر تحدث بصفتهم الطرف الضعيف الذي هزم وهدم بغض النظر عن رأي المتحدث، فهو إما محلل موضوعي أو محلل متحيز ضد أو مع أو هو شامت وأكثرهم -بل كلهم في الإعلام المصري للأسف- كانوا شامتين.
لم تمض أيام كثيرة وبدا واضحا أن تفاعل الإسلاميين مع الكارثة جاء متعقلا متدرجا متصاعد الحشد، ثابت الإصرار، رابط الجأش بشكل ينافي كل ما كان متوقعا... وكان هذا –فضلا عن حشود المؤيدين داخل مصر وخارجها- سببا لا لبس فيه في إرباك الانقلابيين وما يزال.... ورغم ذلك لا أتوقع أن يتحدث كثيرون عن الحالة النفسية للانقلابيين بعدما بدأت احتمالات فشل الانقلاب في التواتر سواء تمثل الفشل في الانزلاق إلى دوامة العنف أو اضطرار الانقلابيينن إلى العودة بالأوضاع إلى ما قبل 3 يوليو، ويضع ذلك الانقلابيين في موضع من يحتاج إلى تحليل للحالة النفسية، خاصة وأن عدم اعتراف الإسلاميين بالهزيمة وإصرارهم على المقاومة إلى النهاية يهدد الانقلابيين بالهزيمة، إلىى الحد الذي يجعل عقارب الساعة يمكن جدا أن ترجع للوراء.... بعدما وصفت في فورة الانقلاب بأنها لا ترجع للوراء.
يدرك المتتبعُ الواعي لما حدث أن الخطوط العريضة لما خططه الانقلابيون كما ظهر منذ 30 يونيو وما تلاه كانت كالتالي:
1- يتم استغلال الحشد الجماهيري وتسويق فكرة أنه الحشد الأكبر في التاريخ (20 مليون إلى 40 مليون مصري) ... وقد تم بالفعل تسويقها ورددتها شخصيات سياسية عالمية مؤثرة وكاد كل شيء يمر بسلام.
2- تقوم أجهزة الأمن بالتكميم الفوري لكل فم يتوقع أن ينطق فيكون مؤثرا... وبالتالي أغلقت القنوات الإسلامية واعتقل الإعلاميون.... واستمر ويستمر تشويه صورة قناة الجزيرة والجزيرة مباشر مصر، والسي إن إن.... إلخ.
3- يتم تنفيذ القانون حيث يتولى رئيس المحكمة الدستورية رئاسة البلاد بشكل مؤقت، لكي يرد على القائل بأن ما حدث يمثل عودة لحكم الجيش.... وتتم بسرعة إجراءات صياغة الدستور ويدعى الجميع إلى بداية عملية سياسية نظيفة من الإسلاميين أو تحتويهم بقدر محدد ومحدود.
4- يتم التعامل أمنيا وبسرعة مع جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي مرسي... وبهذا تسترد وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة كرامتهما وتعود الأمور بالتدريج إلى ما كانت ربما مع بعض التحسين الصوري والجزئي في التعامل مع المواطنين.
ما سبق كان يفترض أن حجم التأييد الشعبي للإخوان تضاءل إلى درجة تفقدهم القدرة على إعاقة المسيرة، وأن غضب الجماهير منهم فضلا عن الحملات الإعلامية المركزة والمتتالية لتشويههم سوف يجعل إسكاتهم أسهل بكثير، وهم بالتالي لم يتوقعوا رفضا شعبيا للانقلاب..... لكن كل الإشارات تدل بوضوح على أن حجم الرفض وردود الفعل التي أحدثها الانقلاب جاءت أكبر بكثير من المتوقع...، وأيضًا لم يقتصر الأمر على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بل اتسع ليشمل كل أو أغلب الإسلاميين... ثم حدثت مجموعة من الملابسات والمفارقات جعلت صورة الانقلابيين تهتز بشدة (مثل مقاطع الفيديو التي يكتشف أنها ملفقة أو التي يتم تسريبها وتظهر نية مبيتة نحو علمنة الدول وإقصاء كل الإسلاميين) في نفس الوقت الذي يكتسب رافضو الانقلاب تأييدا شعبيا وعالميا يتعاظم يوميا.
كذلك كان المفترض أن ردود فعل الإخوان ستجعلهم فريسة سهلة بإلصاق تهم العنف والإرهاب وهذا أيضًا لم يحدث بل أدار ويدير الإسلاميون -وليس فقط الإخوان كما كان متوقعا- حركة المقاومة بقدرة فائقة على التأثير وإبداع منقطع النظير.... كل هذا فضلا عما أظهروه من صلابة لا مثيل لها يتظاهرون يوميا ويواصلون اعتصامهم في شهر رمضان الموافق لشهر يوليو شديد الحرارة في مصر فيجهزون فعاليات بعد صلاة الظهر لا سيما أيام الجمعة وأخرىى بعد العصر وأخرى بعد صلاة التراويح ويتم تهديدهم وترويعهم بل والهجوم الوحشي عليهم بالخرطوش والرصاص الحي فتزيد أعدادهم ويكتسبون صلابة أكثر.
لا تسير الأمور إذن في الطريق الذي تخيله الانقلابيون ولا تنجح محاولاتهم لاحتواء الوضع ومع تزايد فعاليات وأماكن حدوث وأعداد المشاركين في التظاهرات يتزايد الضغط الخارجي بينما يتآكل الدعم الداخلي للانقلاب.. فماذا عساها تكون الحالة النفسية للانقلابيين؟ أو بالأحرى ما هي الانفعالات التي تعتور داخل نفوسهم وتظهر أو تستنتج من خلال تصرفاتهم وأقوالهم ؟ سنحاول في السطور القليلة القادمة استنتاج بعض تلك الانفعالات مع شيء من التحليل دون أن يكون مقصودا بها الإحاطة والشمول بقدر ما يقصد إعطاء الأمثلة:
1- الاستخفاف: ربما كانت ردود أفعال الانقلابيين الأولى متسمة بالتهوين والتجاهل لردود أفعال رافضي الانقلاب، وكان أغلب المحللين من غير الإسلاميين يتوقعون خروجا للإخوان المسلمين -مع تمنيات بحظ طيب مرة أخرى- من المشهد، وراهن الإعلاميون على أن حملتهم الشرسة المنظمة على الإخوان ستنهي كل احتمال لجعل رفضهم مؤثرا، ولم يستمر الاستخفاف طويلا ثم بدأ التظاهر بالاستخفاف ومحاولة التعامل بشتى الوسائل مع الرافضين للانقلاب دون الاعتراف بأن لهم وزنا.
2- الغضب: بدأ انفعال الغضب عند الانقلابيين مباشرة بعد استفحال فعاليات الاحتجاج لكنه ظل مختفيا لفترة وراء خطاب الاستخفاف والتهوين... ووجد بعضا من التنفيث عبر حملات التشويه والتلويث والشيطنة خاصة للاعتصامات، وعبر البيانات والتصريحات كذلك.... كما تكرر خلال البرامج الحوارية على الجزيرة أن يفقد المدافع عن الانقلاب أعصابه، مثلما تبين متابعة حوارات وتعليقات المصريين على موقع الفيس بوك ذلك الغضب، فما أسهل أن يفقد مؤيد الانقلاب أعصابه وما أسهل أن يعلن عن حبه للحكم العسكري وعن فرحته في مصاب الإسلاميين.
3- التشفي والشماتة: تبدى ذلك الانفعال البغيض في كثير من التعليقات والتحليلات والتبريرارت التي صدرت عن الانقلابيين على اختلاف درجات كرههم للإسلاميين أو درجاتهم في السلطة أو الإعلام، كما ظهرت الرغبة في الانتقام والتشفي في تصرفات رجال الداخلية وأمن الدولة، ولعل هذا الانفعال كان أحد أهم المزالق التي سقط خلالها الانقلابيون من أعين كل مصري شهم بغض النظر عن معاداته أو مساندته للرئيس مرسي، فكثير من المصريين يقول لك أنا لم أكن راضيا عن أداء مرسي لكنني أرفض الطريقة التي تم بها إقصاؤه.
4- التردد والارتباك: مثلما لم يتوقع الانقلابيون فداحة رد فعل رافضي الانقلاب، لم يتوقع الرافضون هذا الكم من أخطاء الانقلابيين... فهم منذ اللحظات الأولى تحالف هش توقع أنه باعتماده على الدولة العميقة وعلى دول دعم الانقلاب (إسرائيل والإمارات والسعودية والكويت والأردن...إلخ) سوف يتمكن من الانفراد بالمشهد وكتم أنفاس المحتجين... وكانت نتيجة ذلك السقوط في أخطاء متتالية، مثلا تكرر بعد طبع المستشار عدلي منصور رئيسا للجمهورية أن ظهر السيسي أو أظهر وكأنه الرجل القوي الأوحد في مصر، واستمر تركيز الإعلام عليه حتى نقل التلفزيون المصري صلاته للجمعة، ثم اكتشفوا أنهم يؤكدون بذلك ما نفوه من أن ما حدث كان انقلابا... خسر التحالف الانقلابي الهش من ساندوه من الإسلاميين بسرعة... وحدثت أخطاء متتالية من وزارة الداخلية ومن الجيش ومن رموز العلمانية في مصر لا يمكن تفسيرها إلا بوجود حالة من الارتباك والتخبط.
5- الخوف: بدأت علامات الخوف ظاهرة على الانقلابيين ربما منذ انتشار كلمة السيسي التي ظهرت في فيديو اكتشف تلفيقه يظهر السيسي مجتمعا برجال الجيش ثم اتضح أنه كان يتكلم في غرفة وحده وكان تفسير الجيش للأمر فاضح الكذب، ثم بدا الخوف مختفيا وراء النظارة السوداء في خطاب السيسي لطلب التفويض من شعبه،.... ثم تكرر ظهور ما يشير إلى الخوف حتى وصلنا إلى التنصل المتتالي من قرار التخلص من المعتصمين، ثم حدثت تفويضات متتالية من الرئيس المطبوع إلى رئيس وزراء الانقلاب ثم إلى مجلس الوزراء ثم إلى وزير الداخلية الذي راح يناشد المعتصمينن ويعدهم بما سماه الخروج الآمن ثم التحذيرات المتكررة والمهل المتمددة التي لا يتلوها فعل واضح من جانب الداخلية بينما يتلوها تعاظم للاحتشاد من قبل رافضي الانقلاب..... كل شيء يشير إلىى شعور الانقلابيين بالخوف، والخوف مع الأسف الشديد -رغم إيجابيته بالنسبة لرافضي الانقلاب- هو أسوأ وأخطر أنواع الانفعالات حين يجتاح نفوس الانقلابيين الآن بالنظر لما في أيديهم من أسلحةة وباعتبارهم الطرف الذي يملك قوة السلاح والقانون والإعلام... فآخر ما يمكن أن يظهره الانقلابيون بشكله الحقيقي هو الخوف... وتبقى كل الاحتمالات مفتوحة لردود أفعالهم ما لم يستمر التحركك الشعبي متصاعدا... وهو ما يبدو حتى الآن أنه مستمر ومتصاعد.
6- القلق: يختلف القلق كانفعال عن الخوف من وجوه عديدة أهمها كون المخيف واضحا في الخوف ومبهما في القلق، وبالتالي يكون الخوف حاضرا عند من يعرف أن الشعب سيحاكمه لأنه ساند أو دعم الانقلاب أو قام به أو بالقتل... أو أو إلى آخره فالخوف هنا من عقاب مباشر معروف، بينما نجد انفعال القلق حاضرا كاستجابة لعدم وضوح الرؤية المتعلقة بمستقبل مصر عند كل الوطنيين سواء كانوا من الانقلابيين أو من غيرهم.... وانفعال القلق هذا ينتظر منه أن يضعف مواقف الانقلابيين وربما يعتبر أكثر أمانا من الخوف الذي قد يؤدي إلى الاندفاع في محاولة الخلاص من رافضي الانقلاب.
7- الذنب: ويعتبر الشعور بالذنب أحد أهم المشاعر السامية التي يتعرض لها الانقلابيون، سواء كان الذنب تجاه الأرواح التي أزهقت أو تجاه ما أصاب مصر من اضطراب ووقوف على شفا حفرة من الاحتراب الأهلي، وتتراوح مستويات الشعور بالذنب من المستوى المنخفض أو المحتمل والذي ربما يدفع صاحبه إلى تسكينه بالتبريرات والتفسيرات التي تجعل الإخوان مستحقين ما يحدث لهم، وصولا إلى مستوى الإعلان عن وجود خطأ فيما حدث ولكن الإخوان هم السبب فيه، أو الإعلان عن الخطأ وطلب الاكتفاء بما وصلنا إليه مع عدم تغيير ما حدث منذ الثلاثين من يونيو، وأخيرا إلى مستوى الاعتراف بفشل الانقلاب أو الإعراب عن عدم مساندته.
وأخيرا لابد من الإشارة لما نعنيه بالانقلابيين فهؤلاء هم المستمرون إلى اليوم على دعمهم للانقلاب برغم الفضائح المتتالية لمنفذيه، ذلك أن من دعموا الانقلاب في أول حدوثه ليسوا جميعا انقلابيين إلى اليوم.. كثيرون في الحقيقة انتبهوا إلى الفخ الذي أخذت مصر إليه فغيروا رأيهم، كذلك سكت بعض الذين يحترمون أنفسهم عن دعم الانقلاب لكنهم لم يصرحوا بذلك بعد، ولعل لجوء قائد الانقلاب إلى طلب الوساطة الأمريكية نذيرا واضحا ببداية العودة إلى الحق.... والعودة إلى الحق فضيلة، ما أحوجنا في مصر اليوم لها.
واقرأ أيضًا: