فجأةً وبلا مقدماتٍ تحوّل الربيع العربي إلى خريفٍ قاحل، قتل الأمل، وحطّم الأحلام، ودمر المشاريع، وأعاد المواطن العربي سنينَ إلى الوراء، نادماً على الثورة، متحسراً على الدماء، باكياً على التضحيات، متألماً على ما أصابه، وما لحق ببلاده وأوطانه. فقد قتل عشرات الآلاف من المواطنين، وزج بأضعافهم في السجون والمعتقلات، وشرد الملايين في أوطانهم وخارجها، وأصبحوا نهباً للجشعين، ومطمعاً للفاسدين، وسوقاً للرق وتجارة الجنس، وسلعاً رخيصة لكل محرمٍ وممنوع، إذ لا يجدون قوت يومهم، ولا ما يستر أجسادهم، ولا ما يُريحون عليه أنفسهم بعد طول معاناة، ومشقةِ سعيٍ وبحثٍ عن مصدر رزق، أو مسكنٍ ومأوى.
فسكنوا الشوارع والطرقات، وناموا تحت الكباري والجسور، وفي الحدائق والأماكن العامة، ولم يعد ثمة فرقٍ بين أغنياء وفقراء، ولا ميسورين ولا معدمين، فكلهم باتوا في الهم والمعاناة سواء، وفي الشقاء والألم إخوان، وقد كانوا جميعاً كراماً في بلادهم، أعزةً في أوطانهم، يُكرمون كل ضيف، ويستقبلون كل وافد، ويُرحبون بكل لاجئ، ويُساعدون كل محتاج، ويهبون لنجدةِ كل ملهوف، ويُعطون بسخاء، ويبذلون بصدق، ويُساندون بحق، ويُناصرون بإيمانٍ، ولا يتأخرون عن أي عطاءٍ تتطلبه الأخوة، وتفرضه روابط الدين والعقيدة، وأواصر الوطن والعروبة.
تغيّر الحال وتبدل كل شيء، وباتت المنارات مظلمة، وصارات العواصم قواصم، تبحث عمن ينصرها، وتستغيث بمن يُنقذها، وتطلب النصرة من كل غريب، وتستجدي الأمن من كل قادر، وتحاول بكل السبُل أن تخرج من أزماتها، وتتلمس طريقها إلى النجاة.
وغدا الحكماء جهلاء، والشيوخ صبية، والعقلاء سفهاء، وبات أهل الحل والعقد أهلاً للخراب والفساد، ورواداً للحرب والدمار، وأصبحت بلادنا نهباً لكل غريب، ومطمعاً للأجنبي، المستعمر القديم، والثعلب الجديد، والذئب الأريب، الذي غدا اليوم هو "الناصح الأمين، والوسيط الموثوق، والمفاوض الحكيم، الحريص على مصالحنا، والخائف على وحدتنا، والقلق على أمننا، والباحث عن نجاتنا، وسبل خلاصنا، والمنقذ لنا من أنفسنا، والمضحي بمصالحه من أجلنا".
فأوفد لنا كبار رجاله، وخيرة مستشاريه، وأعظم قادته، ليكونوا هم "من يأخذ بأيدينا إلى بر الأمان، وشاطئ السلام، ويخلصنا من بحور الدماء، وغابات الشياطين، ويبدو أمامنا أنه حمامة السلام، وملائكة الرحمة، وأنهم خيرٌ من كثيرٍ منا، وأصدق من العديد من قوانا وأحزابنا".
ليس أسوأ من هذا التحول الذي لم يكن يتوقعه أحد، ولم يكن يتصوره إنسان، ولم يخطر على بال متنبئٍ أو قارئٍ للكف أو الفنجان، فقد حلم المواطن العربي أن يعيش حراً عزيزاً، متمتعاً بحقوقه وامتيازاته، متخلصاً من قيوده وأغلاله، ومنعتقاً من أغلاله وسلاسله، فلا تُخيفه السجون، ولا تُرعبه المخابرات، ولا تعد أنفاسه الأجهزة الأمنية، ولا تُراقب حركاته وسكناته، ولا تتابع اتصالاته ولقاءاته، ولا تستدعيه وقتما شاءت، أو تعتقله إذا أرادت، أو تقتله إذا رأت، أو تُغيبه وراء الشمس أو تحت الأرض يحلم بالموت ولكن لا يناله.
فقد كان المواطن العربي يتمنى أن ينال أولاده بعض الحقوق التي حُرم منها، فيصبح من حقه أن يتعلم وأن يسافر، وأن يترشح لأي منصبٍ، وأن يدخل الانتخابات، وأن يُدلي بصوته حراً دون إكراه، فيختار من شاء، ويحجب الثقة عمن لا يرى فيه خيراً أو صلاحاً، وأن تكون عنده القدرة على حجب الثقة عن الحاكم، ومساءلة المسؤول، ومحاكمة الفاسد، ومعاقبة المستبد الظالم.
اعتقد المواطن العربي أنه سيصبح بثوراته أقرب إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وأكثر شراسةً في حربه، وأنه سيرد عليه اتفاقياته ومعاهداته، وسيسحب اعتراف بعض حكوماته به، وسيُعلن أنه إلى جانب الحق العربي والفلسطيني، وأنه لن يتأخر عن نصرة الشعب الفلسطيني ومؤازرته، بل سيقف إلى جانبه، وسيرفع عنه الحصار المفروض عليه، وسيمده بكل مقومات الحياة، وسيُزوده بما يحتاج إليه ليعيش كريماً عزيزاً، وأنه لن يتردد في قتال (إسرائيل) واستنزافها، واستخدامِ كل قوةٍ ضدها.
واعتقد بأن (إسـرائيل) سـتُدرك بعد الثورات العربيـة أنها باتت في مواجهـة مع الأمـة العربيـة كلها، وأنـه عليها أن تُدافع عن نفسـها أمام الأجيال العربيـة الصاعـدة، التي لا تعرف الخوف، ولا تؤمن بالمسـتحيل، ولا تُسـلم بالهزيمـة، ولا تُقر بذل الأمر الواقع.
هذا ما أحـس به العدو الصهيوني وحلفاؤه في الأيام الأولى للربيع العربي؛ فقد بات قلقاً على مصيره، خائفاً على مسـتقبلـه، قلقاً على أمنـه وسـلامتـه، وغير مطمئنٍ على مصالحـه ومرافقـه، فجأر بعالي الصوت شـاكياً باكياً خائفاً، مسـتنصراً بالغرب وبالولايات المتحدة الأمريكيـة، لينفخوا في نار الفلول وأتباع الأنطمـة السـابقـة، ورجالاتهم العاملين بصمتٍ وخفاءٍ وعلنٍ لسـنواتٍ طويلـة، علهم يتمكنون من إنقاذهم من هذا الكابوس، وانتشـالهم مما ينتظرهم من خطرٍ وضياع، ويتهدد مصيرهم ومسـتقبل وجودهم، فقد أنذرت الثورات العربيـة بطوفانٍ سـيُغرقهم، وزلزالٍ سـيُزعزعهم، ونارٍ سـتحرقهم وكيانهم، ومسـتقبلٍ غامضٍ لا يملكون القدرة على التنبوء بـه أو السـيطرة عليـه.
لكن الحال قد تبدل وتغيّر، والأحلام قد سـقطت والآمال قد ذوت؛ فـ (إسـرائيل) قد أصبحت في مأمنٍ من الخطر، وسـلمت من القلق، فلم تعد خائفـة ولا وجلـة، ولم تعد مضطرة لإعلان حالة الطوارئ، ورفع درجـة الجهوزيـة إلى أعلى درجاتها، فقد انشـغل العرب بأنفسـهم، وأعلنوا الحرب على مسـتقبلهم، واغتالوا بقصدٍ أحلامهم، ونزعوا البسـمـة من على الشـفاة، وسـكبوا الدمعـة على كل الجفون، بعد أن أدموا المآقي والعيون، وجعلوا الحسـرة تسـكن القلوب، والألم والحزن يعتصر النفوس.
اليوم باتت (إسـرائيل) تُقدم النُصح، وتخف لتقديم المسـاعدة، وتحث قادة العالم للإسـراع لنجدة الشـعوب العربيـة، وانتشـالها من حمأة المسـتنقع الذي وقعت فيـه، وإعادة عقارب السـاعـة إلى الوراء، وتأمين عودة أنظمـة الحراسـة التي كانت، وحُماة أمنها الذين أخلصوا الخدمـة، وأثبتوا صدق الولاء؛ ففي عودتهم الأمن والأمان، وفيهم الطمأنينـة ولها والسـلام، فالعرب لا يُناسـبهم الربيع ولا أجواءه، ولا يليق بهم عبقـه ولا ثماره، ولا نفحاتـه أو نسـماتـه، فهم قد اعتادوا على الخريف وأنوائـه، وتأقلموا مع قسـوتـه وجفافـه، فهل نقبل أن يكون ربيع العرب إلا أن يكون خريفاً على كل عدوٍ وغاصب، ومحتلٍ وقاتل..!!؟؟
بيروت في 06/08/2013
واقرأ أيضاً:
إسرائيل وحلم الاعتراف بكيانها/ العالم بدون إسرائيل!!/ الاستيطان العربي في أرض إسرائيل/ أنفاق غزة وخندق رسول الله/ خنساء فلسطين في رحاب الله/ فلسطين بين بلفور وأوباما/ الحياد الفلسطيني والقرار المستقل/ إيلات تتخوف وتل أبيب تتوجع