العلاج السلوكي المعرفي لوسواس المرض مقدمة
معضلة التسميات والتشخيصات:
مع تطور الفهم والمعرفة لهذه الحالات (التي يجد الطبيب فيها مريضا يشتكي إما من عرض أو أعراض جسدية ثابتة أو متغيرة ولا يوجد لها تفسير طبي عضوي، أو من قناعة وانشغال مفرط إما بوجود مرض جسدي أو علة ما أو الخوف من وجود ذلك المرض)، نظر الأطباء إلى تلك الحالات في البداية على أنها في الأغلب أعراض ثانوية غالبا لاضطراب الاكتئاب أو اضطراب القلق ونادرا ما تكون حالات أولية وكتب في مراجع الطب النفسي "إن ثبت أنها أولية فإن علاجها يكون صعبا للغاية" كما تعددت الأسماء والأصناف المرضية (مثلا المراق Hypochondriasis أو اضطراب توهم العلل البدنية Hypochondriacal Disorder وكذلك الاضطرابات جسدية الشكل Somatoform Disorder مثل اضطراب الجسدنة Somatization Disorder والاضطراب التحولي Conversion Disorder ....إلخ) وفي كل هذه الحالات كان الجوهر الذي يعول عليه للتشخيص هو وجود أعراض غير مفسرة طبيا Medically Unexplained Symptoms ؛
وأخيرا في التصنيف الأمريكي الجديد DSM-5. تغير الجوهر الذي يعتمد التشخيص عليه من التعويل على العرض أو الأعراض غير المفسرة طبيا إلى التعويل على الأعراض المعرفية السلوكية المصاحبة للعرض الجسدي المزعج (APA, 2013)، وهو ما يمثل تأثرا بالتوجه الأحدث في التعامل مع هذه المشكلات وهو الاتجاه المعرفي السلوكي، وبالتالي لم يبق على حاله من تلك المجموعة من الاضطرابات إلا الاضطراب التحولي، بينما تغير اسم الاضطراب المراقي إلى اضطراب قلق المرض Illness Anxiety Disorder وتغير اسم الاضطراب جسدي الشكل واضطراب الجسدنة إلى اضطراب العرض الجسدي Somatic Symptom Disorder .
وبينما شاعت تسمية قلق الصحة Health Anxiety في الكتابات عن العلاج المعرفي لحالات المراق والجسدنة تحاشيا ربما للوصمة المرتبطة بأسماء بعض الأمراض وتوسيعا لقطاع من يمكنهم الاستفادة من العلاج، فقد اعتدت في عملي مع مرضاي أن أسمي هذه الحالات " وسواس المرض Illness Obsession " مستخدما كلمة وسواس بأحد استعمالاتها على لسان الناطقين بالعربية لتعني الاهتمام الزائد ذلك أن الاهتمام الزائد أو المفرط بالعرض ومعناه وسبيل الخلاص منه هو جوهر معاناة هذا النوع من المرضى.... وتسمية وسواس المرض كاسم عام لمجموعة اضطرابات نفسية يكون جوهر المعاناة فيها هو التركيز على العرض الجسدي وفرط الانشغال به وبما يعنيه تبدو تسمية مناسبة، وتشمل هذه الاضطرابات طيفا واسعا من الحالات يبدأ باضطراب الهلع وصولا إلى وهام المرض والذي تصل فيه شدة القناعة بوجود المرض حد الفكرة الوهامية Delusional Disorder .
وسواس المرض: أمراض مستقلة أم نقاط على متصل؟
يمكننا النظر إلى حالات وسواس المرض أو قلق الصحة المزمن على أنها نقاط على متصل معرفي سلوكي يبدأ باضطراب الهلع..... وينتهي بالوسواس القهري OCD أو أحيانا بالوهام المراقي Hypochondriacal Delusion ، ورغم أن هذا المتصل يضم اضطرابات من فئات تشخيصية مختلفة حاليا حسب التصنيفات السائدة في الطب النفسي إلا أننا معرفيا وسلوكيا نجد تشابها حقيقيا في الصورة المرضية لكل هذه الاضطرابات.
ومن الواضح أن متصل وسواس المرض المعرفي السلوكي يضم فئات تشخيصية شتى فهو يبدأ باضطراب قلق هو اضطراب الهلع والذي يمثل الانشغال المفرط بالخطر الآني على الجسد أو الصحة مع القابلية للطمأنة، وينتهي باضطراب ذهاني هو الوهام المراقي، ومرورا بين هذين الحدين نجد كلا من حالات العرض الجسدي بأشكالها المختلفة حيث يكون التركيز الأساسي على العرض الجسدي دون كثير انشغال بقناعة مرضية ما؛
ثم حالات اضطراب قلق المرض أو المراق قديما حيث تكون القناعة بوجود أو الخوف من وجود مرض ما هي المحرك المستمر للقلق، ثم حالات الوسواس القهري وفيها غالبا ما تكون الوسوسة بالمرض جزءًا من وساوس وقهورات أخرى حالية مستمرة أو سابقة، كذلك هناك بعض حالات رهاب العدوى ورهاب الموت أو المرض ربما تتداخل مع حالات الوسواس القهري ولكن بعضهم ممن يسمون حالاتهم وسواس الموت أو المرض هم مرضى اضطراب هلع أو اضطراب قلق آخر.
وفي كل الحالات السابقة نجد خلطة ما من سلوكيات وأفكار تشمل -مع اختلاف النسب حسب المكان على المتصل- الانتباه الانتقائي، وسلوكيات البحث عن الأمان مثل التحاشي واحتياطات التأمين وطلب الطمأنة المتكرر، إضافة إلى الأحاسيس الجسدية وتوقع الخطر عاجلا أو آجلا، وبينما تتشابه النظرة المعرفية لحالات وسواس المرض (أو اضطراب قلق المرض واضطراب العرض الجسدي) مع النظرة المعرفية لحالات اضطراب الهلع ففي كليهما تحدث إساءة تفسير الأحاسيس الجسدية وتعتمد عليها الأعراض، نجد أن كل مرضى وسواس المرض يسيئون أيضًا تفسير المعلومات الطبية من الأطباء ومن وسائل الإعلام، كما يسيئون تفسير نتائج الفحوصات الطبية والتحاليل... كما يختلف مرضى وسواس المرض عن مرضى الهلع (Salkovskis et al., 2003) اختلافات أساسية ففي وسواس المرض:
1- يكون المخشي منه مؤجلا لذلك يرتبط بأمراض خطيرة أكثر من ارتباطه بالموت المباشر، بينما يكون المخشي منه آنيا عادة في مرضى الهلع لذلك يشتكي كثيرون منهم من سواس بالموت.
2- نجد سلوكيات الفحص والتحقق وطلب الطمأنة أكثر بروزا في مرضى وسواس المرض
3- يتقلب المريض بين إسهاب التفكير وإمعان النظر وبين تحاشي التفكير في الموضوع.
4- تكون الافتراضات المعيقة المتعلقة بالصحة أكثر
۰ أهم العلامات التشخيصية الفارقة في مرضى وسواس المرض (Salkovskis et al., 2003):
- إساءة تفسير معنى الأحاسيس الجسدية
- إساءة تفسير المعلومات الطبية المستمدة من الأطباء أو العاملين في المجال الصحي أو الصحف أو الإنترنت....إلخ
- طلب الطمأنة المتكرر من العاملين بالصحة وإلى حدود مفرطة وليس دائما طلب طمأنة واضح بل كثيرا ما يكون مستترا.
- يستطيع المرضى دفع الأطباء ليس فقط للطمأنة وإنما أيضًا لطلب فحوصات وتحاليل باهظة الكلفة وغير لازمة
- قديما صنف البعض مرضى المراق إلى ثلاثة أنواع هي مريض المراق الوسواسي والذي تسود فيه الأفكار الوسواسية المتعلقة بالمرض والأفعال القهرية الخاصة بالفحص المتكرر لدى الأطباء وتكرار التحاليل والأشعات.....إلخ، ومريض المراق الرهابي والذي يتحاشى الأطباء والتحاليل وكل ما له علاقة بالمرض الذي يخشاه، وأخيرا مريض المراق الاكتئابي والذي تسود فيه علامات الاكتئاب الصورة المرضية، وكذلك تختلف درجة الاستبصار من مريض لآخر على متصل يبدأ من الاستبصار الكامل عند مستوى القلق والاستبصار الجزئي أو المتأرجح عند مستوى الوسوسة وصولا إلى الانعدام عند مستوى الوهام.
- ويصنف الآن مرضى اضطراب قلق المرض إلى نوعين (APA, 2013) هما طالب للعون الطبي Care-Seeking Type ومتحاشي أو متجنب للعون الطبي Care-Avoidant Type
ويعني ما تقدم أن المريض بوسواس المرض والذي قد يطلب مساعدتك في العلاج يمكن أن يكون منتميا إلى أي من الفئات التشخيصية المذكورة عاليه فقد يكون حسب التسميات الأخيرة مريضا باضطراب الهلع أو اضطراب العرض الجسدي أو اضطراب قلق المرض أو مريضا باضطراب الوسواس القهري تتمحور وساوسه وقهوراته حول الصحة والمرض وقد يكون مريضا باضطراب قلق آخر أو قد يكون مريضا بالاضطراب الوهامي من النوع الجسدي وتتفاوت بالتالي صعوبة العلاج واحتمالات نجاحه، كذلك يعتمد اللجوء إلى استخدام العلاج المعرفي السلوكي المدعوم بعقار دوائي على تشخيص المريض وشدة أعراضه وهذا قرار يتم الوصول إليه بالمشاركة مع المريض.
المراجع الأجنبية:
- APA (2013) : American Psychiatric Association. The Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders DSM-5. (Fifth ed.). Arlington, VA: American Psychiatric Publishing.
- Salkovskis P.M, Warwick H. M. C. and Deale A (2003): Cognitive-Behavioral Treatment for Severe and Persistent Health Anxiety (Hypochondriasis). Brief Treatment and Crisis Intervention 3:353–367 (2003)
يتبع >>>>>>>: ع.س.م لوسواس المرض من الصياغة للعلاج