دعوات الحوار في مجتمعاتنا غالبا ما تنتهي لتداعيات أليمة، وما نجح حوار بين الفرقاء إلا فيما ندر.
وجوهر العلة في أننا لا نحاور أنفسنا أولا، فلا نمتلك مهارات الحوار الذاتي، ولا نقوم بتقييم وتقدير لما نقوم به من أفعال وما نتخذه من قرارات، كما نضع رؤانا ومنطلقاتنا في قوارير ونعتقها على رفوف الخسران، فنحسب الزمن متوقفا والمكان جامدا.
تلك خلاصة ضعفنا وانهياراتنا المتلاحقة، وعَجْزِنا عن الوصول لنظام دستوري راسخ تتوارثه الأجيال، وتمضي على هديه بأمن ومحبة وألفة وسلام.
ذلك أن أي حوار ناجح لا يمكنه أن يثمر إلا إذا كان ما بين الذين حاوروا أنفسهم، فاطمأنوا وأدركوا وعرفوا، وصارت نظرتهم ذات موارد متكاملة بمعطياتها المتصلة بأبعاد الزمان والمكان.
والذي يحاور عليه أن يكون رأس هرم من الدراسات والبحوث والتوصيات، والتفاعلات الفكرية والثقافية الاستراتيجية والتكتيكية، ليجني ثمار المفكرين والمحللين والواعين المعبرين عن قدرات الحق والمصلحة العامة.
وفي مجتمعاتنا لا يمتلك الحوار الضوابط الدستورية والقانونية والوطنية، وينحدر إلى مستويات فردية وفئوية ضارة بالجميع، بل أنه نوع من التفاعلات الأولية ذات الآليات الدفاعية الغير متكاملة، وكأن قدراتنا السلوكية لم تبلغ النضج وتترسخ في العقول، وإنما بقيت كآليات نفسية معصوبة وموجهة بالانفعالات السلبية وبقوة الشك وظن السوء والبغضاء.
أي أن هناك حواجز نفسية سميكة تمنع الحوارات، ولا يمكن لهذه الحواجز أن تنهار أو تتمزق إلا بالحوار الذاتي، أي أن يراجع المتحاورون أنفسهم، قبل أن يدّعون الحوار.
ومن الواضح أن الحوار الناجح ينطلق من المشتركات ويسعى إلى تنميتها وتقويتها، وتحويلها إلى طاقة إيجابية صالحة للحياة.
ومَن يأسره الكرسي، قد لا يحاور نفسه، ولا ينظرها بعين العقل والشعور بالمسؤولية والأمانة والقيمة الوطنية والإنسانية.
فالكراسي غالبا ما تعمي البشر، وتخرجه من طبيعته وتحيله إلى حالة سرابية وهمية، ذات طبائع إلهية، وهذه العلة معروفة منذ فجر التأريخ، ففي حضارات وادي الرافدين ومصر القديمة، كان أصحاب الكراسي يتحولون إلى آلهة، ومن ثم أنصاف آلهة وبعدها أصبحوا يحكمون بتفويض إلهي، ولا تزال هذه المعضلة تتحكم بسلوك البشر الذي يمتلكه كرسي المسؤولية أو الحكم.
وقد أدركتها المجتمعات التي صاغت الدساتير لتقيّد قوة المسؤولين في السلطة، وبهذا حققت توازنا حضاريا بين مراكز القوة والقرار، وحافظت على لجم النوازع السلبية لقادتها.
وفي الكثير من المجتمعات المتأخرة لا تزال هذه العلة فاعلة وسائدة، مما يتسبب بتفاعلات دامية حامية، لأن النظام الحاكم قد يتعالى على البشر، ويحسبه أرقاما، وأعداءً وغير ذلك من مسوغات الفتك به والتحكم بمصيره، وهذا التواصل القاسي يلقي بظلاله على تفاعلاتها القائمة، وتلك هي الحقيقة الخفية لما يجري في واقعها.
وبهذا فهي لا تتحاور!!
واقرأ أيضاً:
ليكن عام محبة!! / وعلى الأرض السلام!! / الميزان!! / أوعية الشعوب المثقوبة!!