دعاني أحد الأصدقاء لحضور ندوة سياسية يحاضر فيها عدد من رموز السياسة والفكر فترددت كثيرا في قبول الدعوة رغم احترامي وتقديري لصاحب الدعوة والمحاضرين والحاضرين, فقد غلب الظن عندي (وإن بعض الظن إثم) أن أغلب الفعاليات الآن تتجه نحو الترويج السياسي أحادي الرؤية والبعد وهو ما لا أحتمله مهما كانت دوافعه ومبرراته أو القائمين عليه, وأقلق كثيرا من لافتات التأييد والتفويض والمبايعة في الميادين والشوارع والشاشات بصرف النظر عمن تؤيده أو تفوضه أو تبايعه.
فنحن نستنسخ في هذه الأيام حالة الترويج السياسي التي عشناها في الستينيات أيام الزعيم عبد الناصر, فنتحدث عن الزعيم الملهم الأوحد الذي لا ينافسه أحد وهو الجدير وحده بالقيادة وسط حالة من الانبهار والاستلاب لم تقتصر على العوام من الناس بل طالت النخبة والمثقفين بل والمفكرين والمنظرين والسياسيين, ولدينا دستور نقول ليل نهار أنه أروع وأعظم دستور ليس فقط في التاريخ المصري بل في التاريخ الإنساني, وننادي طول الوقت بلسان الحال والمقال: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة", نفس نداء الستينيات الذي حجب الديموقراطية وأهدر حقوق الإنسان (رغم إيجابيات أخرى لاتنكر في هذه الحقبة)؛
ولا نحتمل رأيا معارضا فضلا عن حزب معارض أو قناة معارضة أو جريدة معارضة, فالمعارضة بكل أشكالها وألوانها في هذا الوقت خيانة, والأحزاب لا تسمع لها صوتا ولكن ربما ترى لافتات على أعمدة الإضاءة تروج للدستور وللحرب على الإرهاب لتقرأ في ذيلها اسم حزب لا تعرف عنه شيئا, فنحن إذن في زمن الرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد. والرسالة الإعلامية تكاد تكون نشرة موحدة وهي تشبه إلى حد كبير (مع اختلاف الآليات والوجوه) وزارة الإرشاد القومي والهيئة العامة للاستعلامات وفعاليات قصور الثقافة.
إنها حالة من النكوص السياسي تجري تحت مظلة الخوف من الإخوان والخوف من الطابور الخامس والخوف من ثوار 25 يناير والخوف من الإرهاب والخوف من الفوضى والخوف من الانهيار الاقتصادي والخوف من قطر والخوف من تركيا والخوف من إيران والخوف من أمريكا.
ويذهب المواطن المصري ليصوت للدستور أو للرئيس أو في انتخابات مجلس الشعب تحت تأثير الخوف فلا يسأل عن تفاصيل أو برامج أو أفكار أو خطط وإنما يسأل عمن يمكن أن يمنحه الخلاص من حالة الخوف التي يعيشها, وهنا يسهل قبوله للترويج السياسي حتى في أشد أشكاله سذاجة وفجاجة وبدائية, وحتى لو كان هذا المواطن متعلما أو مثقفا أو مفكرا فالاحتياج للأمن احتياج غاية في الأهمية للإنسان.
وفي هذا السياق كان لابد وأن يتأخر تحقيق الأمن الاجتماعي بغياب رجال الشرطة من الشارع المصري أو محدودية دورهم وتنامي نشاط العنف السياسي والبلطجة والتهديد بالانهيار الاقتصادي في أي لحظة حتى تستمر حالة الخوف ويستمر استثمارها وتوظيفها للترويج السياسي لشخص أو مؤسسة أو تيار بعينه. وتوارت أهداف ثورة 25 يناير (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية) لحساب البحث عن الأمان.
وفي حالة النكوص السياسي تحت تأثير الخوف يبحث الناس عن زعيم ملهم وعن أب مقدس وعن بطل أسطوري يحميهم مما يحيط بهم من مخاطر فيجدونه أو يصنعونه ويضخمونه ويضفون عليه كل هالات البطولة والقدرة والفخار ويتوسلون إليه أن يحميهم ويقودهم ويفوضونه في اتخاذ ما يلزم وما يرى من سياسات وإجراءات تشكل حياتهم وتصنع مستقبلهم وتحميهم مما يحيط بهم من أخطار.
وهم لا يمانعون في هذه الحالة أن يتحول الزعيم لدكتاتور وأن يدخل بهم دورة استبداد جديدة ينقضوا عليه في نهايتها ليقتلوه أو يعزلوه أو يخلعوه أو يسجنوه, المهم أن يتخلصوا من خوفهم القابع في أعماقهم وأعماق آبائهم وأجدادهم من آلاف السنين.
إنها إذن نظرية الإدارة بالخوف أتقنها من يجلسون على مقاعد السلطة في التاريخ المصري القديم والحديث واستساغها الشعب المصري (أو ألفها) وذاق ويلاتها وعاش بها في دورات استبدادية متتالية, بل وأصبح كأنه مدمن لها يبحث عنها إذا غابت فيصنع مستبديه وجلاديه ويعظمهم في مرحلة ما ويسلم إرادته لهم طواعية حتى إذا بلغ به الذل مبلغه والفقر منتهاه والإهانة سقفها الأعلى ثار ليسقطه ثم ما يلبث أن يبحث عن بديل إيثارا للسلامة ودرءا للخوف القابع في أعمق أعماقه.
وكنا نعتقد أن ثورة 25 يناير قد فجرت حالة من الوعي الجديد تكسر دورات الاستبداد والحكم الشمولي والترويج السياسي وتقديس الزعيم الملهم, ولكن أخطاء المرحلة الانتقالية وجرائم الانتهازيين, وأطماع الطامعين, وغباء السياسيين, وانقضاضات الثورة المضادة, كل ذلك أجهض حالة الوعي هذه وعدنا إلى نقطة البدء مرة أخرى ولكن بأشكال وأسماء وصور مختلفة, فلانكاد الآن نرى حوارا سياسيا بل هجاءا سياسيا ومكايدة سياسية وإقصاءا سياسيا واغتيالا معنويا لكل ما هو ليس مثلنا, وطبل وزمر وتهليل وتهويل وتخويف, وموجات من الدعاية السياسية الفجة تعلو فوق أي صوت للعقل والحكمة والنقد والمراجعة والرشد السياسي.
واقرأ أيضا:
مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟