المجتمعات التي تحكمت بها أنظمة دكتاتورية على مرّ العصور والأجيال، لا يمكنها أن تبني الديمقراطية، بمجرد تغييرها لتلك الأنظمة. فمجتمعاتنا لا تمتلك خبرة ومعرفة بنظام حكم غير دكتاتوري!
فما عرف الديمقراطية أجدادنا، ولا آباؤنا وأمهاتنا، وما شممنا رائحتها في البيت والمدرسة ومكان العمل، ولا نمتلك أبسط مهاراتها، كالحوار وتبادل الآراء وتحملها واحترامها، والقدرة على التوافق والبحث عن الحل.
ولا أظننا نمتلك (جينا) ديمقراطيا واحدا (صبغة وراثية)، فكروموسوماتنا خالية تماما من أي حامض أميني ديمقراطي الملامح والتأثيرات!!
فكيف ندّعي الديمقراطية هكذا بين ليلة وضحاها؟!
البارحة كنا في الديكتاتورية، واليوم نحسب أننا في الديمقراطية!
هذا ادّعاء وسلوك لا يتفق وبديهيات الأمور على الإطلاق! فالديمقراطية تربية متواصلة عبر أجيال وأجيال، والدكتاتورية كذلك، وتربيتنا الدكتاتورية أطول بمئات القرون من تربيتنا الديمقراطية التي ما عهدناها حتى اليوم، لكننا نتصورها ونتوهمها ولا ندركها كمنهاج عمل وحياة.
وهذا يعني أن مجتمعاتنا غير مؤهلة للانتقال الفوري من حالة إلى حالة مغايرة لها، وهذا ما يفسر النتائج الوخيمة التي أدت إليها هذه الانتقالة الخطيرة، الغير مدروسة، والأشبه بالفوران أو الهيجان الذي أوجده الشعور الأليم بأن الكيل قد طفح، وأن لا بد من التغيير.
فعندما صدحت الحناجر "الشعب يريد"، خلت الساحة من المفكرين والمنظرين والاستراتيجين الذي يرسمون خرائط تحقيق الإرادة الجماهيرية، وإنما وجدت الجموع الثائرة أنها تواجه المجهول بكل ما يترتب على ذلك من مخاوف وتوجسات وحيرة واضطراب وشعور بغياب الأمان.
جموع خرجت من أسر الدكتاتورية، لتجد نفسها أمام حالة غريبة عنها وغير مؤهلة للتفاعل معها، كأسرى الحروب والمعتقلات الذين أقاموا عقودا في زنازين الاعتقال، وعندما أفرج عنهم بغتةً، فضل الكثير منهم العودة لزنزانته لأنه لا يمتلك مهارات صناعة الحياة. فمجتمعاتنا وكأنها تعاني من التمعهد الدكتاتوري، وليس من السهل عليها أن تتشافى من هذا العوق الحضاري، الذي جردها من المسؤولية وأفقدها الإحساس بقيمتها ودورها الإيجابي في المجتمع.
والعلة التي واجهتها أنها ما حظيت بقيادة واعية ديمقراطيا، وذات خبرات وتجارب تساهم في تأهيل المجتمع للدخول في المرحلة الجديدة، مما دفع إلى التشظي والتمحور والتخندق والانتماء لفئات ومسميات، وعناوين ترضي حاجاتها النفسية الأساسية للشعور بالأمان، وعدم التيهان في بيداء المجهول، الذي انفتحت أبوابه وهبّت عواصفه وأعاصيره التي لا قِبَل لها بها.
فالمشكلة أن المجتمع فقد نظام المرحلة الانتقالية التأهيلي اللازم لإمداده بالمهارات والآليات الضرورية لدخول مدن الديمقراطية ومجتمعاتها وكياناتها الحضارية المعاصرة.
وتقع المسؤولية على المثقفين والمفكرين الذين أغفلوا مسؤوليتهم في إعداد برامح التأهيل والتثقيف والتوعية المكثفة، وعدم إطلاق النظريات الديمقراطية المتفقة وخصوصيات المجتمع، وما فيه من المكونات التي تستدعي الدراسات والأبحاث، وهذا أدى إلى كتابة دساتير أو كُتِبَت، بسرعة غير معهودة في المجتمعات التي بنت تجاربها الديمقراطية العريقة.
واقرأ أيضاً:
الديمقراطي الأعوج!! / طابت ديمقراطياتكم!! / الأمية الديمقراطية!!