تمر مجتمعات العرب، وبخاصة أقطار الربيع، بمخاضات عسيرة .. تحتاج إلى وعي، وتأمل، وبصيرة.
دولة ما بعد رحيل الاستعمار عن المنطقة تحولت تدريجيا إلى احتلال محلي تحتكر فيه طوائف، ونخب مغلقة، السلطة والثورة والهيمنة على مقدرات البلاد، وتلقي لبقية الشعب بفتات يترواح بين رفاه نسبي في دول الوفرة، وحرمان متفاوت، في دول الفقر!
وفي مقابل تشكل وتعقد وتمتين شبكات الاحتواء والهيمنة والنهب تمت تدريجيا عمليات تفكيك التراكيب المجتمعية القديمة، أو تحييدها بضم قياداتها إلى النخب القابضة على السلطات، والثروات!!
وكانت إثارة النعرات والمعارك القبلية والمذهبية والدينية بمثابة دينامية رئيسية في تفتيت النسيج الاجتماعي وإضعافه لتسهل السيطرة عليه، مما راكم أوجاعا تاريخية، وترك جروحا نفسية وروحية عميقة، وأنتج فجوات واسعة بين أبناء الوطن الواحد، ومزق النسيج إلى شيع، وتكوينات مغلقة متباعدة مفتتة على أساس طبقي، أو عرقي، أو جهوي، أو غير ذلك.
في الدول التي ما تزال متخثرة، يرقد الغبار تحت ركام الأغطية، وتحت أقنعة التجاهل والإنكار، بينما في دول الحراك يصدم هول الانكشاف أولئك الذين رأوا ما كان قائما، وهم عنه غافلون!!
في تسعينيات القرن الماضي بدا لي أن أطلق مشروعا للتواصل بين الشباب العربي عبر البريد العادي قبل أن تجتاحنا رياح الشبكات العنكبوتية، واخترت لإطلاق المشروع مجلتين مشهورتين ومتداولتين في أوساط الشباب العربي، وبدأت الرسائل تصلني، وبعد أخذ ورد مع صديقة أرسلت من سورية، قلت لها في معرض كلام طويل، أن الأوضاع التي (كانت) تبدو مستقرة في سورية ستنفجر يوما، ودعوت لسورية –التي أعشقها، وأهلها- باللطف الألهي، والحكمة في معالجة الأمور حين تنفجر!!
الرد الذي تلقيته كان صاعقا غاضبا تعاملت فيه الصديقة معي بوصفي حاقد على نعيم سورية المتماسكة الرائعة الموحدة تحت قيادة ملهمة!!
نفس الوهم عاشته، وتعيشه أقطار عربية كثيرة، بينما تصاب بالذهول ملايين من العرب يرون شماتة وتشفي من أبناء الوطن الواحد بعضهم ببعض، ويذهبون ينعون إنسانية هؤلاء الشامتين في الدماء، المتشفين في القتلى!!
والحق أن هذا التشفي هو كاشف مهم، وفرصة نادرة لنفهم ما كنا نتغافل عنه، ويبدو أن بعضنا ما يزال يستعذب الغفلة، ويستسهل الإنكار!!
وراء هذا التشفي كراهية عميقة أفلتت من التجمل بكتمانها، والكراهية شعور أصيل في النفس الإنسانية، وهو مدان في ثقافتنا، والتعبير عنه مقموع من مهدنا إلى لحدنا، وتتم برمجتنا طوال الوقت على أن نحب أوطاننا، وأهلنا، وأن نحب غيرنا، ولا يقال لنا من ينبغي أن نكره، وكيف نعبر عن هذه الكراهية؟؟
النتيجة هي أن تتراكم بداخل كل منا مشاعر غضب، وحزن، وألم، وكراهية!! صهاريج ممتلئة قيحا، ووجعا شخصيا، وعاما ورثنا بعضه، ونتجرع الباقي إيذاءا في الصغر، أو امتهانا في الكبر، أو تفاعلا عاديا مما يحصل للبشر كونهم بشرا يكرهون، ويتألمون، ويضعفون، ويغضبون!!
لكن أحدا لم يخبرنا: كيف نعترف بإنسانيتنا ونقبل ضعفنا وألمنا وآبار الحزن والكراهية بداخلنا، وكيف نتعامل معها؟؟
وصار سهلا أن نلقي بالعبء كله على الآخرين حولنا، بحيث نتوهم ويتوهمون أنهم مصدر هذه الكراهية، لا نحن!!
بينما الآخرون بأفعالهم، ووجودهم كله –المستفز لنا أحيانا- إنما يحركون مشاعرا بداخلنا: ألم، غضب، كراهية، هي مشاعر خاصة بنا، مخزونة ومكبوتة، ومتراكمة تبحث عن فرصة، عن فريسة، عن كبش فداء لتنفجر فيه!!
هذا التشفي المستنكر هو فرصة لنكشف ونكتشف ونستكشف أنفسنا، ومجتمعاتنا، وهذا –عندي- أنفع من نوع تعاطف مجاني، ودمع يذرفه البعض على الضحايا، أو هم وحزن وكمد، لا يفيدهم بشيء، وربما نفع صاحبه فقط تفريغا وتنفيسا، وربما أضره إحباطا واكتئابا وعجزا عن الفعل النافع والداعم -بحق- لهؤلاء الضحايا!!
عظيم أن تظهر الكراهية لندرس ونتأمل في أسبابها ومصادرها الحقيقية، ولنبدأ في علاج ما تراكم من أوجاعنا، وما يمزق صفوفنا من أمراض نفسية فكرية، وروحية، وثقافية اجتماعية!! عظيم أن نستكشف حقيقة مشاعرنا، وأن نعبر عنها، ونسعى معا للتفاهم حول استكشاف، ومعالجة الاختلافات الصحي منها، والمرضي، وهذا أفضل لنا من الكذب الذي تربينا عليه، وهو بعض ما أوصلنا إلى ما نحن فيه!!
واقرأ أيضًا
أنا مهتم .. أنا موجود / صفحة جديدة.. ممكنة