عباس ابن فرناس عالم كيمياء ورياضيات وفلك وموسيقى ومخترع، ولد في مدينة روندة الأندلسية في بداية القرن التاسع الميلادي وتوفى في قرطبة، وهو من رواد فكرة الطيران، وقصته تتلخص بأنه حاول الطيران بجناحين كما تفعل الطيور، وحاول وحاول.
وما كان يخطر على باله بأن الحديد سيطير، وأن الأخوين رايت، وهما من ولاية نورث كارولاينا الأمريكية وعملهما تصليح الدراجات الهوائية، قدحت في رأسهما فكرة القدرة على الطيران وبأنهما قد حلا لغزها، فوضعا لوحين خشبيين على مقوَد الدراجة الهوائية وانحدرا بها على منسرح، فارتفعت عن الأرض، فقررا القيام بأول تجربة طيران لآلة أثقل من الهواء في 17\12\1903.
وانتشرت فكرتهما كالنار في الهشيم، وما هي إلا بضعة سنوات حتى صارت تسمى طائرة تحلق في الفضاء، ودخلت الحرب العالمية الأولى محاربة ومدمرة ومقاتلة، ومن ثم ناقلة مسافرين وغيرها من المهمات، حتى عصرنا الحالي الذي جن فيه جنون الطائرات وتنوعت مهامها وقدراتها.
واليوم نتحدث عن طائرة البوينغ 777 الماليزية 370 التي اختفت من الأجواء وتحولت إلى لغز أشغل الدنيا منذ أكثر من أسبوع، وتزايدت التكهنات والتفسيرات ما بين الخلل الميكانيكي والسكتة التقنية المفاجئة وتخلخل الضغط داخل الطائرة، إلى إضطراب التقدير والرؤية والاندساس في الماء على أنه الفضاء، وبين العمل المقصود من قبل القبطان ومساعده أو من قبل الركاب، والبعض راح يتحدث عن الإرهاب ذلك اللون الذي يمتص جميع الألوان.
وكثيرون ربما فكروا بأنها أصيبت بضربة صاروخية أو انفجرت في الجو وتحولت إلى نثار، وتنامت التكهنات وتعددت التفسيرات، والشكوك والتحليلات والافتراضات والتصورات، التي انطلقت في عالم متعطش للأقاويل والإشاعات والادعاءات والاتهامات، لأنه عالم يفور وكأنه التنور.
والبعض يدّعي بأنها أصيبت بشهاب ثاقب أحالها إلى عدم، وآخرون راحوا يتحدثون عن قوى غريبة من خارج كوكبنا اختطفتها، ونقلت مَن فيها إلى عوالم أخرى، وأنها اختارتها لأن معظم ركابها من الصينيين الذين هيمنوا على الأرض بابتكاراتهم وصناعاتهم، ولهذا فإن بعض الكواكب المأهولة وجدتها فرصة ثمينة للاستثمار بالجينات الصينية.
والأعجب أن أحدهم يرى أن حوتا عظيما أو مخلوقا عجيبا يتوطن المحيطات قد ابتلع الطائرة واستمتع بمَن فيها، ولربما سيلقيها في مكان ما بعد حين.
وآخرون يرون أن الطائرة ما طارت ولا سقطت وإنما هي لعبة وتمثيلية ذات غايات أخرى، خصوصا وأن الأحداث المتفاقمة في سوريا وأوكرانيا في أوجها، ومنهم من يرى أنها لعبة لاستهداف ماليزيا وتصدير الربيع العربي إليها، لكي تعيش أياما عراقية وسورية وليبية ويمينة، فلربما اختطفت وأخفيت في مكان ما؟.
وهناك مَن يرى أن قوة ما أصابتها وأزالت آثار جرمها، أو ابتلعها فم أرضي لاهث، أو اندست في رمال مكان ما أو مستنقع وأي بقعة رخوة، أو أصيبت بصاروخ متطور يعمل بطاقات ما بعد النووية فأذابها وحولها إلى قطرات تساقطت كالمطر في الماء!!
عجائب تصورات وغرائب توقعات، ولا يزال سيل التفسيرات والتكهنات على أشده، ومحطات التلفزة منشغلة على مدار الساعة بالمستجدات.
إنه عالم مفعم بالحذر والشك والخوف والتوجس والاتهام السهل، الذي لا يمكن الفكاك منه والتخلص من قيده.
بيوت فُتِشت وجوازات دققت، وتأريخ جميع المسافرين صار تحت أنظار الشك والبحث الدقيق والرعب العنيد.
وشركات صناعة الطائرات أخذت تعيد النظر بتقنياتها ومتطلبات السلامة والأمان، والمطارات غيرت أساليبها، فكل شيء يتغير بسرعة في عالم يسعى إلى المجهول، وقد أصبح للهجمات الإليكترونية تأثيراتها المدمرة، التي ربما تكون الطائرة من ضحاياها.
وأما الخوف من الطيران فيزداد يوما بعد يوم، وصار قلق الطيران متفاقما مما يعني أن استجابات المسافرين لأي شيء مشكوك فيه سيكون شديدا، وكأن الطائرات ما أصبحت واسطة سفر ذات مأمن، بسبب ما يحصل وما يسبق السفر من إجراءات وتدقيقات وتنقيبات، فكل مسافر مهما كان أصله مشكوك فيه حتى تثبت الرحلة غير ذلك.
وهذا سيؤثر كثيرا على السياحة، وسيجعل السفر غير مرغوب فيه، وستزداد العزلة وتتسيد شبكات التواصل الاجتماعي الإليكترونية على التفاعل الإنساني الحي ما بين البشر.
فلغز الطائرة الماليزية قد تسبب في إعادة ترتيب الرؤى والتصورات، والوسائل والتحريات، فطواقم الطائرات سيتحولون إلى أهداف مشكوك بها، وسيخضعون لأشد التدقيقات.
ويبقى باب الاحتمالات مشرعا، والتوقعات متغيرة ومتعددة، لكن الجديد في الأمر تفاقم الخطر، وتحول البشر إلى مشكلة في سفر ويستدعي الحذر؟!!
و "سافر تجد عِوضا عمن تفارقه... وانْصب فإن لذيذ العيش في النَصَبِ"!!
________________________________________
النَصَب: التعب.
واقرأ أيضاً:
النفاق الديمقراطي!! / لا ديمقراطية بلا زراعة!! / عندما يعرفك خصمك !! / ألهاكم التناحر!!