حاولت الرجوع إلى عصور عربية سابقة لأرى توصيفا نفسيا أو اجتماعيا لما يعرف حاليا باسم الجماهير أو المجتمع المدني أو الأحزاب والقوى الشعبية فرأيت أن كل هذه الأسماء والتنظيمات والتشكيلات الشعبية كانت تحمل في التاريخ العربي (ويبدو أنها مازالت تحمل) معان غاية في السلبية والإحتقار وسنترك للقارئ إدراك الأمر بعد استعراض الألفاظ والتسميات المستخدمة : العامة ... الدهماء .... السوقة ..... الرعاع ..... السفلة .... العصابة المنحرفة .... الأوباش ... الزعار (الزعران) .
بالطبع تؤثر هذه الألفاظ على الصورة الذهنية لما نسميه نحن الآن الشعب أو الجماهير أو جماعات الضغط أو المجتمع المدني أو الأحزاب المعارضة . وقد يفسر هذا ولو جزئيا ابتعاد المجتمعات العربية عن الديموقراطية الحقيقية حتى الآن وتوجس جميع الأنظمة العربية من العمل الأهلي ومن مجموعات المعارضة ومن حركة الجماهير، على الرغم من أن العالم كله الآن يتجه نحو تقوية العنصر الجماهيري بكل تجلياته وتشكيلاته ويحد من توحش السلطة وسيطرتها واستبدادها.
والقارئ للتاريخ العربي يلمح اهتماما شديدا بتاريخ السلاطين والملوك والحكام ويلمح أيضا إهمالا لتاريخ الشعوب مع أن الشعوب حافظت على التيار الحضاري في كثير من مراحل التاريخ العربي والإسلامي في الوقت الذي كان تاريخ الحكام يتسم بالفساد والانهيار، وكان الضمان لاستمرار التيار الحضاري في فترات التدهور السياسي طائفتان هاماتان هما الفقهاء (يقصد بهم المتخصصون في علوم الشريعة) والعلماء (يقصد بهم المتخصصون في العلوم الطبيعية والعلوم الطبية والإنسانية) وكان الشعب يتحرك مع هاتين الطائفتين متجاوزا فساد الحكام ومشاكلهم وصراعاتهم، وهذه هي روح المجتمع المدني بلغة العصر الحديث.
والمتتبع لأدبيات الخطاب السياسي في مراحل التاريخ العربي يلمح بسهولة أن الخطاب في أغلبه على الأقل لم يكن يوجه للرعية باعتبارها كيانا محترما له وزن أو اعتبار وإنما كان الخطاب يوجه للسلطان أو الملك أو الخليفة، ولا يأتي ذكر الرعية إلا في معرض دعاءها له بطول البقاء والنصرة على الأعداء وفي معرض امتنانها له على جزيل العطايا وامتنانها لله على منحته العظيمة في صورة السلطان أو الملك أو الخليفة العظيم الملهم والمعلم. ولم تكن ذات الرعية تظهر في الخطاب السلطاني إلا من حيث كونها مجموعة من العامة والدهماء والسوقة يخشى عليها من المنحرفين والمضللين ومثيري الشغب والمتمردين والعصاة والفسقة الخارجين على طاعة السلطان.
والرعية ليست إلا مرآة يتبدى عليها عدل السلطان وحكمته ورحمته وعفوه ورعايته. وبمراجعة كتاب الأحكام السلطانية وغيره من الكتب ذات العلاقة نرى تباينا واضحا في المساحة التي تشغلها السلطة الحاكمة والمساحة التي تشغلها الرعية لدرجة تكاد تنعدم فيها مساحة الرعية أو تستدمج في ذات السلطان وتصبح جزءا منه وليس العكس. وتبدو أهمية الرعية في دعم ملك السلطان ليس إلا فالسلطان هو الرأس وهو المركز وهو الأساس وهو الوجهة فهو الذي يقيم الحق والعدل والعمران (في نظره) ويحمي سياج الدولة، والرعية تشكل ساحة للعمل السلطاني وتشكل موردا للمال والبشر يسخره السلطان لتحقيق الأهداف المرجوة (له وبه). فالرعية "موضوعا" لـ "ذات السلطان"، وكما يصورها أبو بكر الطرطوشي أنها "جسدا مآله الموت" لولا "الروح السلطانية" و "أرضا ظمأى بدون ماء" و "ظلاما حالكا" لولا "سراج الملوك". ويعتبرها الماوردي "يتيما تضيع حقوقه من دون ولي"، و"أمانة" (بلغتنا الحديثة: عهدة) في يد السلطان المؤتمن عليها. ويصفها الشيزري بـ " الغنم السائبة إن تعذر راعيها "، و"نبتا يتوق إلى قطرات الغيث"( الآداب السلطانية، عزالدين العلام 2006 ، عالم المعرفة 324).
ويتضح من هذه الأوصاف في التراث العربي الصورة السلبية لما يسمى الآن الجماهير أو الشعب أو المجتمع المدني، ويبدو أن هذه الصورة متجذرة في اللاوعي الجمعي للحكام والمحكومين على حد سواء ويبدو أنها تشكل قانون العلاقة بين السلطة والشعب في كافة المراحل التاريخية مع استثناءات قليلة، وتبدو هنا صورة السلطان على أنه الأب والمنقذ والروح والموجه والمعلم والمرشد والغيث والرأس والعمود والوصي والمؤتمن والراعي. والرعية تأخذ شكل المحتاج المتوسل والمتسول والجاهل والضعيف، صاحب النفس الأمارة بالسوء، الساعي إلى الفتنة التي لا يعرف مداها، والسلطان الراعي يأخذ شكل المعطي المتفضل القوي المهيمن الضامن للأمن والأمان ودرء الفتنة.
ومع ثورات الربيع العربي فوجئ الجميع أن موازين القوى تتغير لصالح قوة الجماهير وسطوتها وتحررها، لذلك انتبه أصحاب السلطة في العالم العربي لترويض هذا الوحش القادم من كهوف الذل والعبودية ليطالب بحقه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وذلك من خلال تزييف وعيه بإعلام موجه، وبث الروع في قلبه بفزاعات الخطط والمؤامرات، وشق صفه بالصراعات الدينية والسياسية حتى تخور قواه ولا يرفع رأسه مرة أخرى في وجه أسياده.
واقرأ أيضاً:
لماذا تدهورت أخلاقنا؟ / نهضة ماليزيا في حوض سمك