حتما.. هناك سيناريوهات أخرى غير سيناريو "البؤس للجميع".. الغالب على الإدراك الحالي الشائع لحاضر مصر، ومستقبلها!!
يبدو واضحا –بالنسبة لي، على الأقل- أن أغلب المصريين لم يفهموا رسالة 25 يناير!! من أين أتت؟ وماذا تحمل؟ وكيف نجحت في إنجاز خطوتها الأولى؟ ولماذا تعثرت خطواتها التالية!! والارتباك الذي يكاد يشمل الجميع يؤكد ذلك الغموض، والالتباس، والعجز عن استيعاب شيء جديد على تاريخهم الممتد، ويدهشني بؤسهم في استخدام نفس أساليبهم القديمة الفاشلة في فهم وتناول أوضاع جديدة!! بل هم أصلا عاجزون عن إدراك الجديد فيها، فيكررون ما أفسد حياتهم سابقا، توهما منهم.. أنه.. سيصلحها، مستقبلا!!! بل لا مانع لديهم من تكرار فشل غيرهم.. لعله ينجح هذه المرة!! في حالتهم، فأي بؤس ذاك، وأي أمل كاذب؟؟
أكبر جماعة اجتماعية كونها المصريون يذهلك أن آخر تجديد وتطوير قامت به.. مر عليه قرابة العقدين، وربما ثلاثة!!
جماعة الإخوان المسلمين مفاصلها متيبسة، ومن وما تبقى من عقول فيها هو منهك تحت وطأة ملاحقات مستمرة، ومحاكمات ظالمة، واعتقالات خارج القانون، وصدمات، وضربات، ومفاجآت بدأت مع 25 يناير، وتتوالى.. حتى هذه اللحظة!!
التكوين الإصلاحي المتأصل مع النزعة المحافظة المتجذرة مع البطش المتوالي أنتج جماعة مرهقة منهكة بين قيادات يفهم بعضهم، بعد فوات الأوان، وقواعد تحمل من التفاني، والصلابة أكثر مما تحمل عقلا ناقدا، أو مرونة، أو قدرة على التجديد.. بعد مراجعات، تماما مثل بقية المصريين!! ولم يكن، وليس متوقعا أن يكون لدى الجماعة أي مشروع يحمل جديدا، فهي طوال العقود الماضية، إما مشغولة بتوسيع ما هو ممنوح لها من مساحة، أو استيعاب ما تتلقاه من ضربات، والناس يتفرجون!!
سيدهشك أن أحدا ممن يلومون جماعة الإخوان ليس لديه شيء غير هذا اللوم، وبعض البكاء على الفرص التي تشارك معهم في تضييعها، دون أن يجرء أحد على الاعتراف بهذا!!
لم تكن الجماعة بتكوينها وحالتها مؤهلة للسير قدما في تحقيق أهداف ثورة لم يفهمها أحد، وتنافسوا مع الفرقاء في توظيفها لمصالحهم الشخصية، أو الحزبية، ولو على حساب الآخرين، أو نكاية فيهم، مستبعدين قوة الناس من المعادلة، إلا بوصف الناس كتلا تقف مرصوصة أمام صناديق الاقتراع، أو حشودا تتظاهر في الشارع ضاغطة، أو مطالبة لصالح هذا الطرف، أو ذاك!!
هل سيتعلم أحد مما يجري حاليا؟؟ هل سيتغير شيء مع الاحتفاظ بالأنا الفردية، والجماعية.. كما هي.. دون تحريك وعي، ولا تأمل مساءلة، ولا تجريب جديد، ولا تفقد لما تعرى فينا، وانكشفنا فيه، ومع استمرار ترديد نفس الأساطير، والقوالب اللفظية المكررة، والقصص التي تتراوح بين تمجيد الذات، أو الرثاء لها!! بين: لك الله يا مصر، أو لعنها!!
إلى أين ستوصلنا طفولية الاستسلام لإحباط فشل أساليبنا التي أوصلتنا إلى خواء الروح، وخنق بعضنا لبعض، وتعويق نمونا الشخصي، ونضجنا الإنساني، والاجتماعي، ونحن نحسب أن هذه هي "الطرق".. لا شيء سواها.. في إدارة وفهم أنفسنا، أو إدارة علاقاتنا، أو مقاومة سلطة دموية، مجرمة!!
طبعا هناك أكوان وعوالم وتجارب إنسانية ذاخرة بطرق أخرى.. أكثر نفعا، وبالتالي سيناريوهات أخرى لحاضر ومستقبل مصر.. لكنها تبدأ بأهم وأصعب خطوة: فهم ألاعيب.. الأنا، وتجاوزها!! -رصد الأخطاء الذاتية، ومواضع الخلل فرديا، وجماعيا، وتبادل المشورة، والتعاون بشأن أسبابها، ومقترحات علاجها –فهم الصراعات المجتمعية الحالية، ومراجعة التقسيمات والتصنيفات المضللة الحالية (من قبيل إسلامي/علماني، سيساوي/ربعاوي، فلول/حزب كنبة.. إلخ)، والبحث عن تصنيفات أخرى أكثر دلالة، وقدرة على توصيف التركيبات الموجودة، والفرز المستمر المتزايد –تأسيس وعي روحي جديد أدرك فيه نفسي وغيري بوصفنا بشرا مكرمين أحرارا، ومستخلفين، نتواصل، ونتكامل، ويحترم كل منا نفسه، وغيره –بدء تحالفات مجتمعية جديدة على أساس الندية والكفاءة والتنافس في التصدي للظلم، مهما كان مصدره، ونصرة الإنسان المظلوم، مهما كان منظره!
الاستسلام للبؤس هي طريقة عيش يشتهر بها أغلب المصريين، ولهم في هذا الاستسلام ألف تبرير، وتزيين، وتفسير، ومن يراقبهم في حياتهم الشخصية، والأسرية، والعامة سيجد نوعا من استعذاب البؤس، والاحتفاء بتقاليد "العديد" على من ماتوا، دون أدنى اهتمام بإنقاذ الأحياء، أو سلامتهم!
يتنافسون في الحزن على ما ضاع، ولا يدرسون أسباب ضياعه، ويشمتون فيمن أوصله اختياره إلى مآله، دون مد يد العون له، فيعيشون ويموتون فرادى.. ظالمي أنفسهم.. بغباء معايرة كل ذي نقص بنقصه!!
حسنا.. هذا هو بعض ما أوصلنا إلى ما نعيشه، وسيتكفل بإقامتنا طويلا فيه، لو لم نفهم، وننتهز فرصة 25 يناير لنتوقف، وننشر صفحة أخرى، غير الاستسهال المستمر بأشكال متنوعة منها الإحباط، والإنكار، والقول بهلاك الناس!!
في العقول والنفوس عفن كثير أتاحت 25 يناير كشفه، وما يزال يتكشف مع ركام القهر، والعزلة، والغياب والتغييب والغيبوبة عما تطور في العالم من حولنا!!
25 يناير وضعتنا في قلب الأحداث والأعاصير والتقلبات والفوران المتدفق في العالم منذ عقود، وكنا في عزلة عنه داخل بالوعات عصر مبارك، وتعليمه، وإعلامه، وأوهامه، وعسسه!! ويشفق أغلبنا على نفسه من أن يتعرى أو ينكشف أو يتغير، أو نكون جزءا من العالم، فيتمنى العودة إلى البالوعات.. مرة أخرى!!
المستقبل مفتوح لمن هو مستعد للوعي الجديد، والمصارحات، والمكاشفات، والتعري والانكشاف للمعالجة المتعاونة، وأنماط جديدة لتناول الحياة والعلاقات بين الناس، وأشكال جديدة لإدارة الجهود والطاقات.. غير الأشكال السلطوية القديمة الفاشلة.. التي ما نزال.. متمسكين بها!!
مصر في قلب الدنيا: أسئلة، وتمردا، وحركة، وموتا لقديم –انتهت صلاحيته، ويقاوم بضراوة -ومحاولات لميلاد جديد.. نكاد نملك مفاتحه لو رمينا ما في أيدينا ونفوسنا.. من غثاء، وضلال قديم.. ما نزال نتمسك به!!
واقرأ أيضا:
في مديح التشفي/ غواية الشغب