في بلد بحجم مصر توجد كفاءات وقدرات وإبداعات ومبادرات وطاقات هائلة.. لكنها متناثرة، ومغمورة، ومهملة غالبا.. بينما يقبع أهل مصر محبطين في انتظار أن تقوم من الأجداث دولة ماتت وتعفنت وتحللت، ولن تقوم لها قيامة إلا بجهد وعمل شعبها.. الذي –في نفس ذات الوقت -يلتمس وينتظر.. ينتظرها!!! وتلك من المفارقات المدهشة، وكم ذا بمصر من مفارقات!!!
كان العدد لا يزيد عن عشرين شخصا في فضاء القاعة التي تستضيف ندوة عامة عن: حلول مشكلة المرور بالاتصالات والمعلومات على المنصة جلس مهندسان.. أحدهما متخصص أجرى دراسة معمقة عن مشكلات المرور في شوارع القاهرة، والآخر يعمل في شركة دولية كبرى أدهشني أن بها قطاعا يسمى: نظم النقل، والحلول اللوجستية!
الأكاديمي نزل إلى الواقع ودرس المشكلة، ويقترح حلولا حاسمة ومحددة، ورأس المال الاستثماري يقدم التقنيات المساعدة، ودارت النقاشات حول هذا، وذاك.. دون حضور أحد من الطرف الممسك بزمام تسيير الأمور، أي.. الدولة!
في نقاش جانبي أدهشني وصول الخبراء إلى قناعة –صارت من مسلماتي-بأن طريقة التفكير، والمعالجات الرسمية لا تصلح، ولا أمل فيها، بغض النظر عن القائمين عليها، أو تغييرهم، بل وصف أحدهم الوضع بأن ملاكا مطهرا لو دخل إلى دولاب الأجهزة الإدارية في مصر لأصبح شيطانا مفسدا.. في اليوم التالي.. مباشرة!
بالرغم من هذا.. دارت كل النقاشات دون أدنى إشارة إلى أدوار الأطراف الأخرى الحية، المهتمة بالشارع، بالطريق، والمرور، وإن كان يبدو المتعارف عليه عندنا.. أن الشارع بلا صاحب، أو هو مولد، وصاحبه غايب.. وبخاصة.. هذه الأيام!
الحقيقة هي غير ذلك.. إذ يتيح لي تجوالي طيلة ثلاثين عاما أن أرى –بوضوح -الشظايا المتناثرة، والجهود المبعثرة، التي لا يعلم أحدها بالآخر!!
بالنسبة للشارع، والمرور.. تعرفت على مجموعتين مهمتين.. إحداهما ترصد المخالفات، وتنبه إليها، وتحاول رفع الوعي بآداب الطريق، والدور المجتمعي الأمثل في إقامة حقه، ولهم مجموعة نشيطة جدا على الفيسبوك بخمس وأربعين ألفا من المتابعين!!
المجموعة الثانية هي طيف من الجماعات الشبابية الناشطة جدا في مجال التلوث البيئي، والاحتباس الحراري، واهتمامهم بالمرور والمواصلات أساس، ولهم في تصورات المشكلة، ومبادرات الحلول تدخلات، وإبداعات!!
البعض يرى التشبيك وإيجاد صيغة ما بين مجموعة جهود، أو مبادرات.. لإنتاج فعل أوسع، هو عمل شاق، وأصعب من وجود هذه الجهود، وعملها منفصلة، متناثرة.. بلا تنسيق!!
وعلى خلفية سوابق فشل لعمل جماعي رسمي، أوتنظيمات حزبية أيدلوجية قد يطالب البعض بالتمهل، والتأمل في إقامة تكتلات جديدة، أو إشعال توقعات جديدة، لأنه بدون فهم احتياجاتنا، وفهم طبيعة العلاقات المطلوبة بين الأطراف المختلفة، قد يضر العمل الجماعي، أكثر مما ينفع!!!
ربما التجديد يكون في العمل الجماعي القائم على دوائر الاهتمام بملفات نوعية، لا عصبية الانتماء لأساطير تفوق مذهبي أو فكري، وربما بدء الشباب المتحمس في التركيز بدروب وسبل ومجالات بما يتجاوز مجرد العاطفة الجياشة، والرغبة العارمة في الإصلاح!!
ربما الحلقة المفقودة هي التوجيه والتشجيع واحتضان هذه الطاقات الطازجة، وربما تشغيلها في تعريف الناس والمبادرات ببعضها البعض، وهو مجال مهجور.. على أهميته!!
ربما ينشغل من لديهم بعض الوعي، والقدرة على تنظيم الجهود، وتشبيك المتناثرات.. عن هذه المهام بغيرها، أو بمطالب العيش!
ربما ضعف ثقة الناس في أنفسهم، وفي جدوى حشد قوتهم معا، وقدراتهم.. يشل حركتهم، ويزهدهم في التنسيق، والعمل المشترك!!
ربما الإحباط المنتشر هو من أسباب غياب التربيط والتشبيك، وربما هو من بعض نتائجه!!
في حالات كثيرة توصل الناس إلى حتمية مراقبة آداء السلطة عبر أجهزة ومؤسسات حاولوا أن تكون محايدة.. مثل الإعلام، والمجالس النيابية، والمجتمع المدني.. ثم هم يكتشفون تباعا أن هذه الجهات غير كافية، ويثورون دوريا على أوضاعهم بحثا عن آفاق جديدة، وآليات أفضل للتغيير، ومن ثم تحقيق حياة أفضل، ولا يمكن أن يحصل هذا دون عمل جماعي، وتنسيق، وتشبيك!
عن.. هدر أغلى ما نملك
بدون إدراك الانطلاق المبهر لطاقة جديدة، والظهور المذهل لقوة جبارة.. كانت مخفية، أو مكبوتة، أو تائهة، هي قوة الناس، وطاقة الشباب.. في مصر، يصبح الحديث عن 25 يناير هو مجرد تقليب في مواجع، واجترار إحباطات، والندم على فشل متوالي لجميع الأطراف!!!!
في رسالته لنيل الدكتوراة أسماها الباحث الجاد سامح فوزي: "القوة الخفية"، ودرس في بحثه ذلك الرصيد، أو ما يسميه البعض "الرأسمال الاجتماعي"، والجديد منذ 25 يناير هو ظهور ما كان مخفيا، حيث صار في الشارع ثم في حياة الناس، والمجتمع.. يوميا!!
لكن أحدا ممن صدمهم هذا التجلي الآسر الذي انبهر العالم ببداياته في ميدان التحرير لم يفهم أن هذه الطاقة نفسها، ووحدها.. هي طريقنا للعبور إلى المستقبل!!
النتيجة.. لم ينجح أحد في استثمار هذا الزخم الهائل لإنجاز ما قامت الثورة لتحقيقه، ومن ناحية أخرى فإن صدام هذه الطاقة كان مروعا، سواء مع من عمل ضدها، وكذلك مع من لم يفهمها، ولم يستثمرها!!
لم تفلح مذبحة ستاد بورسعيد (حيث قتل العشرات من مشجعين شباب في عمر الزهور) في وقف تنامي زخم تطور تجمعات الأولتراس مثلا، كما لم تتطور الحملات الشبابية المؤيدة للمرشحين الرئاسيين، والتي وصل بعضها لضم مئات الآلاف، وربما أكثر، غطوا جدران مصر بالشعارات والملصقات.. حتى وصل بعضها إلى القمر.. في تهكمات البعض –حينئذ -تعليقا على الانتشار الواسع.. جدا!!
ولم تتحول المليونيات المتوالية كل جمعة تحت شعارات مختلفة إلى زخم مبادرات دائمة يتناول كل منها ملفا من الملفات المزمنة التي ما تزال تنتظر مثل: الأمن –العدل –الحريات –الإعلام –التعليم.. إلخ
وفي محنة عميقة أذهلت العالم أكثر –غالبا –بدا وكأن المصريين يفوضون الأجهزة التي ثاروا ضدها في حل المشكلات التي تسببت فيها!!
وبدلا من أن يضخ اللاعبون في الحلبة دماءا جديدة، ويطرحون أفكارا جديدة، ويبنون تشكيلات جديدة في الجسد العام، بحيث تستوعب زخم هذه الطاقات الجديدة الهادرة.. تنافسوا في تجاهلها، وهدرها، والاستخفاف بها، وأحيانا.. في تحطيمها عبر السير بالبلاد في مسارات العودة بها إلى قبضة العصابات المسيطرة على مقاليد الأمور في أجهزة السلطة، وتربيطات الثروة!!
بدلا من الاحتفاء بظهور قوة الناس، والتفكير الجماعي الإبداعي في استحداث قنوات متنوعة لاستثمارها بشكل يومي متطور.. فضل اللاعبون الأساسيون –وكلهم من القدامى -اللجوء إلى الطرق والقيادات والصيغ متصلبة الشرايين، وأفلحوا في "تطفيش" هذه الطاقة من هذه الشرايين، فصارت السياسة في مصر مجرد مسخ لا نفع فيه، ولا حياة، ولا أمل في استكمال بدايات ما جرى في 25 يناير!!
هذه الأمواج المتلاحقة فشل الإخوان في فهم منطقها، أو إنجاز طرح فكري أو حركي جديد يستوعبها، بل فشلوا في استيعاب منطق شبابهم.. أو المتماس منهم مع هذه الطاقات الجديدة، أصلا!! ولم يكن مدهشا ألا يفهموا الإخوان -بعد ذلك إن حركة تمرد لم تكن سوى استثمار لبعض هذا الزخم المعطل المهمش المركون.. بل ربما لا يفهمون هذا الجزء من الصورة، حتى الآن!
دكاكين الإعلام والسياسة الحزبية التي انفتحت في شكل أحزاب، أو جرائد، أو قنوات فضائية.. قدمت نفسها بوصفها تشكيلات جديدة.. لم تكن سوى واجهات بتمويل من نفس الممولين القدامى، والنتيجة هي تقديم نفس الأشربة القديمة العطنة، ولكن في كاسات تلمع، وتخدع البعض!!
أغلى ما يملك المصريون هو نفس ما يتبارون في هدره وتبديده!!
السلطة تعيد اسطوانة مبارك المشروخة في محاربة الإرهاب، وباسمها تقتل وتعتقل زهور الفجر الجديد، ونفس الشباب الثوري، أو من منهم ما يزال حيا –خارج المعتقلات -يقتل نفسه كمدا، أو إحباطا، أو يكتفي بمتابعة حلقات برنامج فكاهي، أو إطلاق حملات تعريض بالقادمين القدامى/الجدد.. بديلا عن بناء ما تأخرنا، ونماطل في بنائه!!
لكن الصورة تضم أيضا محاولات مبهرة ومبادرات واعية متناثرة، لكنها واعدة في تحريك، وتأسيس وعي جديد، وإطلاق إبداعات في الفعل، والحوار، والمعرفة، والتعبير بأنواعه، والتثقيف، من شباب وأعمار مختلفة يسعون في الأرض عمارة، ويسيرون تأملا، واعتبارا، وبذلا لجهود تحتاج إلى زخم الملايين المحبطة.. الفاقدة للأمل.. بينما هي الأمل.. والقوة، والمستقبل!!
واقرأ أيضا:
غواية الشغب/ البنية التحتية للبؤس المستدام