في العقود الأخيرة من الحياة الأرضية، انتقلت البشرية من الواقع إلى الخيال، ثم تجاوزته في الوقت الراهن إلى حياة ما بعد الخيال. فأصبحت مجتمعات تعيش في المرحلة المتقدمة، وأخرى لا زالت تمارس الجهل والانضواء في الكهوف، والبكاء على الأجداث واللطم والعويل، والتعبير عن الضياع والبؤس والحرمان، فكرهت الحياة ورغبت بالموت والشقاء الأليم. ولا يُعرف لماذا ترتقي مجتمعات إلى أعلى عليين، وتنحدر أخرى إلى أسفل سافلين.
فمجتمعات ما بعد الخيال تتحرك باطراد باتجاه النفاذ في أعماق ذلك "الما بعد"، وتوفير عناصر صيرورات ابتكارية جديدة للبشرية التي تطورت بسرعة مذهلة، تفوقت على قدراتها النفسية والعقلية والبيولوجية، مما وضعها في محنة وجودية كبرى قد تقضي عليها، وتجردها من سلطتها الأرضية. فالمجتمعات التي تعيش ما بعد الخيال، تقدمت في ميادين متنوعة ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ، وتميزت في مجالات النقل وصناعة وسائطه، وبالإليكترونيات التي تحكمت بالحياة وحددت مساراتها وتفاعلاتها المستقبلية.
والمجتمعات المدفونة تحت أطمار الجهل والضلال والبهتان، تسعى فارغة وخالية من أية مساهمة ذات قيمة ومعنى ودور، وهي مجتمعات معروفة ومأسورة بالصراعات والتفاعلات السلبية، ويعم فيها الفساد والظلم وتنمو آفات الضياع والانحدار المتواصل إلى كهوف الهلاك.
وبين مجتمعات تجاوزت الخيال، وأخرى لا زالت لا تعرف كيف تفكر وتنظم حياتها، انقسمت الحياة إلى شطرين، وتفاعلت بأساليب غير حميدة مما أدى إلى تداعيات متوافدة، لا يمكنها أن تتوقف إلا بالقضاء على المجتمعات التي لا تفكر والمدثرة بالظلام، أي أن المجتمعات التي لا تفهم في التفكير والخيال صارت عقبة أمام مجتمعات ما بعد الخيال.
وهذا التناقض الرهيب الذي يحصل في الأرض، لا يمكنه أن يؤدي إلى نتائج طيبة ومن الأفضل أن يزول، ويكون ذلك بسعي المجتمعات المقهورة إلى معاقل التفكير والابتكار والتفاعل الإيجابي مع المجتمعات الأخرى التي تقدمت عليها.
وعلى مجتمعات ما بعد الخيال تقع مسئولية مساعدة المجتمعات المقهورة للخروج من مستنقعات جهلها وتفاعلاتها السلبية، لكن هذه المسئولية صعبة وتحتاج إلى وقت طويل.
ويبدو أن الأعماق البشرية وميولها الدفينة قد تدفع إلى الحلول السريعة .
وفي عالمنا المجنون في القرن المأفون والمعبأ بكل وسائل الدمار والشجون، يكون خيار الحرب هو الأول دائما وهو الذي يتصدر قائمة الخيارات.
لأن ماكنة المصانع العالمية للسلاح، قد تطورت وأصبحت في عالم ما بعد الخيال، وما تنتجه اليوم تريد استخدامه في ظرف أسابيع أو شهور، وإلا فقد قيمته وتأثيره لأنه سيكون قديما بعد ستة أشهر من صناعته، ولكي لا تتأثر أو لا تخسر فعليها أن تجد أسواقا لهذا السلاح.
وأعظم أسواق السلاح وأكبر مختبراته هي المجتمعات المقهورة، التي يتم استثمار قهرها وويلاتها، خصوصا عندما تكون قادرة على دفع ثمن السلاح ، فتنعش مصانعه ومختبرات تطويره.
فالقوة اليوم وبرغم التطورات الحضارية الفائقة، أصبحت عبارة عن قنبلة وصاروخ وطائرة، وكلما تطورت وتقدمت أدوات القوة، كلما تمكنت المجتمعات من استعباد وظلم وامتهان بعضها بل وامتلاك بعضها.
وبمعنى آخر، أن عقلية التفاعل القديمة في زمن العصور الحجرية وما حولها، لازالت فاعلة في حياتنا وما فعلناه، هو تطوير وسائل التعبير عن تلك الأساليب التي نشأت عليها المجتمعات البشرية في أول بدئها فوق التراب.
فلا فرق بين غزو قبيلة وقبيلة وأخذ ممتلكاتها وسبي أهلها، وبين الإغارة على مجتمع وتدمير ما فيه، وتهجير أهله ومصادرة ثرواته، تحت شعارات براقة وأكاذيب مؤزرة وخداعات وتلفيقات طاغية، تعبث بعقول الناس وبمشاعرهم وتحولهم إلى كتل طينية يمكن صناعة ما يراد منها من الأشكال.
وعليه فإن البشرية مطالبة بتطعيم ما وصلت إليه من اقتدار وقوة بمعاني ومعايير إنسانية تحافظ على دلالاته الإنجازية، وتساهم في فتح أبواب المحبة والعدالة والسلام ما بين أبناء الأرض، لكي ترتقي الحياة وتتأكد صفاتها السامية.
واقرأ أيضاً:
الاستهلاك الديمقراطي!! / الطبائع الغابية!! / الأكل لا يشبع والكرسي لا يقنع!! / ما هو مستقبلنا؟!!