أشكر هذا الموقع المضياف الذي تحمل نشر سبعين قيمة أخلاقية وثقافية مقسمة إلى ثلاث مجموعات كل مجموعة تحتاج إلى شجاعة التلقي لمجرد قراءتها حيث تثير كل قيمة من القيم السبعين قضية كاملة تحتاج لمقالة مستقلة (إن لم يكن كتاب مستقل). القيم الأخلاقية والثقافية ليست ثابتة ولا مقدسة، بل إنها إذا ثبتت أو تقدست قد تصبح غير صالحة مع تغير الأحوال وتطور الناس والمجتمع، بل قد تؤدي عكس ما كانت تؤدية حين ظهورها إذا كان التغير جذريا ودالا.
مجتمعنا الأحدث في مصر الذي تعود على التقليد والاتباع (للأسف) وقع في محظور الثبات على قيم جامدة لأسباب كثيرة متنوعة، فقد ساهم القهر السلطوي مع الجمود الديني المؤسسي مع الكسل العقلي مع الافتقار لتنمية الإبداع ساهم كل ذلك في ترسيخ حالة من الجمود حتى التقديس، لكل ما اعتدنا عليه، وأغلبه سلبي للأسف.
حتى الوثبة الأخيرة، والانتفاضة الشبابية الواعدة سرعان ما تجمدت وتشوهت –إلا ما حفظ الله ومحاولات التصحيح –بتكرار نفس النص وترديد نفس الشعارات الدالة على نفس القيم التي سرعان ما تثبتت ودارت حول نفسها مع أن الثورة هي تشكيل مضطرد لإعادة البناء بالنقد المستمر، ثم نقد النقد مع القدرة على المرونة والمراجعة وقياس كل ذلك بوقائع محققة وليس بأضواء متقطعة لامعة عاكسة لبريق ألعاب نارية معادة.
وصلني تعقيبان –حتى الآن –على مقال أمس من الابن د. سمير البهواشي: الأول أثبت به حق السبق فيه حيث نشر قبلا في بريد الأهرام عام 2005، والثاني كتبه مجددا تعقيبا على مقال أمس مقتطفا في الأخير بعض أقوال الأستاذ العقاد الذي نبه فيه إلى خطورة حصر العواطف الإنسانية في العلاقات الأسرية والقَبَليّة وكلا التعقيبين، مع الاستشهاد بالعقاد،
لم يتناولا من القيم السبعين إلا قيمة واحدة (رقم 2 المجموعة الأولى) التي تقول: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وقد دعمه –بحق -الدكتور البهواشي بالمثل العامي "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" ناقدا محذرا من الانسياق وراء لمعان هذه الأقوال والأمثال على حساب ما أسماه قيمة الانتماء إلى دوائر أكبر فأكبر من المجتمع حتى تعم كل البلاد (وأضيف من عندي الآن: حتى تعم كل الدنيا بعد ثورة التوصيل والتواصل).وقد ترتبط القيمة رقم (4) بهذه القيمة ونصها "الفخر بالوساطة" التي تتم عادة بين الأقارب والبلديات والثلل على حساب العدل العام والفرص المتكافئة.
وإنى إذْ أشكر المعقب الفاضل أتمنى أن نواصل حواراً شجاعا حول مراجعة صادمة لقيمة أخرى وثالثة ورابعة حتى السبعين مثل: صدمة شجب البراءة المثالية البدائية التي وضعتها ضمن ما انتهى عمرها الافتراضي، لقد عيب على شباب الثورة التمادي في جرعة مفرطة مما يمكن أن تسمى البراء المثالية، التي تصلح أن نتغنى بها أو نلاعب بها طفلا، لكنها لا تصلح لبناء أمة أو تشكيل دولة حضارية صلبة مستقرة. ذات مرة فزعت من التمادي في تقديس هذه القيمة المثالية "البراءة" التي كادت تجردنا من سلاح التآمر المشروع وتحرمنا من أسلحة التحدي الناضج حتى القتل دفاعا عن النفس والعرض والوطن، أقول فزعت حتى هجوت هذا النوع من البراءة بقصيدة بعنوان: "في هجاء البراءة" قائلا:
"براءةٌ غافلةٌ،
تنازلتْ عن حولهَا والقوة"...
إلى أن قلت:
"براءة زاحفةٌ مبتلةْ، قد سيبت مقابِضَ الأفكارْ،
براءة سارِقَةٌ من فطرتي عبيرها وبعثها "لكنني حين هممت بنشر هذه القصيدة هكذا خفت من سوء الفهم، إذْ كيف أهجو قيمة قد شاع عنها كل هذه الرقة والنعومة بمثل هذه القسوة، فاحترمت القارئ وخفت على مشاعره، ثم أحسست فجأة أن ما يسمى "ثقافة السلام"(اليوم السابع فى 4/2/2014) هو من الميوعة والكذب والمخاتلة الرجراجة ما يجعلها أحق بهذا الهجاء، فأحللت كلمة ثقافة (وأنا أقصد ثقافة السلام والانبطاح) محل كلمة "براءة"، فقبلها أغلب من أعرف من القراء بقبول جيد، وحتى أوضح الأمر أكملت القصيدة وأنا أمدح ثقافة الحرب واليقظة: عكس هذه البراءة وهي "ثقافة الحرب" قائلا:
"ثقافة قادرةْ مغامرةْ عيونها حوْراء ساحرةْ،
آذانها مرهفة وعابرة،
ترصد حبّات المطر في غيمة مسافرة،
ثقافة مستيقظْة نيرانها مستعرة وحافزة،
لا تبدأ العدوان لكن جاهزة:
الكُرهُ درعٌ قادرٌ
إنْ واكَبَ العدل انتصرْ
يحدد المعالمْ، ويرسم االحدودْ،
ويدفع المظالمْ، ويفتح السدودْ،
يـُلجّم النسور في جحورهَا،
فتفقسُ اليمامة: ترعى صغارَهَا.
ما رأيكم؟
هل نواصل شرح كل قيمة من السبعين واحدة واحدة، فننقد ما انتهى عمره الافتراضي (المجموعة الأولى)، ونمهد الطريق إلى ما نحن في أمس الحاجة إلى تخليقه ورعايته (المجموعة الثالثة) شاجبين الرذائل التي أصبحت فضائل واحدة واحدة واحدة.
أعتقد أننا بذلك نبدأ دور تشكيل الوعي العام جنبا إلى جنب مع تدعيم الدولة وضخ الدماء في عروق الإنتاج للاستقلال!
نقلا عن جريدة اليوم السابع
الأربعاء: 16-4-2014
اقرأ أيضاً:
من منظومة القيم الجديدة: فضيلة الدهشة / البصق على كرامة البشر.. وبيت المقدس