بعد 87 عاما من حياة حافلة بالحياة الحية، وليس فقط بالكتابة والإبداع، رحل أول أمس جابرييل جارسيا ماركيز :(6 مارس 1927)، رحل ونحن –عبر العالم -أحوج ما نكون إليه، تماما مثلما كنا ومازلنا أحوج ما نكون إلى محفوظ، وإلى مانديلا، وإلى كل من استطاع أن يطمئننا أننا ما زلنا بشرا "نستطيع" و"نواصل". كتبوا عنه وعن رحيله منذ أول أمس كل ما يمكن أن يكتب عن رجل يستأهل ما كتب فيه وعنه، كتبوا بحب وفهم ومسئولية وأمل، وكأنهم يحاورونه بعد رحيله ليطمئن أنه مستمر بجوار ربه، بطريقته، ورضا ربنا عنه، رحل الكولومبي الشهير، ووصف بأنه الحائز على جائزة نوبل 1982، ولا أظن أن هذا هو ما يميزه أكثر، مهما بلغت قيمة الجائزة التي قام بتعريتها شخصيا قبل الحصول عليها، وخاصة في مجال السلام، ولم يكن متناقضا، فلكل مجال رجال، والقاضي ليس واحدا.
إنسان يمثل البشر الحقيقيين كما خلقهم ربهم مثل ماركيز لا يرحل، لأنه لا يُنسى، وهو الذي علـّمَنا وهو يخاطب زوجته وأصدقائه في آخر رسائله قائلا: "الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان" وأيضا قال "..لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر، تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه"، لن أتمادى في الاقتطاف من فيض إناراته في كلماته الحكيمة بعيدا عن رواياته، مع أني أعتبرها مثل أقوال أينشتاين، بعيدا عن نظرياته، وكلمات زرادشت (بعيدا عن فلسفة نيتشه)، وأشعار طاغور، وحكمة محفوظ (الشيخ عبد ربه التائه)، أعتبر كل ذلك زادا بشريا لا يقل فائدة، ولا يقصر اختراقا فإثراءً لوعي البشر، من إبداعاتهم.
وبعد
أبلغتُ شيخي محفوظ نبأ رحيل جارثيا ماركيز، فترحم عليه، وسألني عن مكان المعزى، فقلت له إنه في عمر مكرم، فتعجب، فذكّرته بأن السيدة "مارسيدس" أرملة المرحوم هي حفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو جليًا في عظامها العريضة وعيونها الواسعة ذات اللون البني!! فطلب مني أن أصحبه للعزاء.
في السرادق، وجدنا ديستويفسكي، وكازانتاكس، وعمر الخيام، والشيخ أمين الخولي، وكاسترو، وكافكا، وعبد المنعم رياض، وروجيه جارودي، ونلسون مانديلا، ما هذا؟ من الذي جاء بهؤلاء هكذا؟ نظرت في ساعتي فإذا بها قد انقلبت إلى آلة الزمن، وراحت تعيد ما دار بيننا ذات خميس (الموافق: 9 -2-1995)، رحت أتأمل الشاشة وهي تظهر بعض ما سجلته تلك الليلة بعد عودتي هكذا (ملحوظة: النقط في النـَّـص المقتطف تمثل مكان ما حذفت): قرأت ما كتبته في ذلك التاريخ بعد جلسة حرافيشية
اقتصرت علينا نحن الاثنين، فكان منه ما يلي:
"... انتهزت فرصة وجودي وحدي معه، وأخذت أبدي له إعجابي الشديد بالشيخ أمين الخولي (جارنا في شارع قمبيز بمصر الجديدة) وكم كنت أفرح وأنا أشاهده يخطر بجبته وقفطانه في حديقة منزله المقابل، وشاركني شيخي إعلان محبته،...... ثم انتقل الحديث، لست أدرى كيف إلى أدب أمريكا الجنوبية، فوجدت نفسي.......... أسأله عن رأيه في جارثيا ماركيز، قال قرأت له، وأعجبت به، إن خياله واسع رائع، مزج في تكامل بين الأسطورة والرواية الحديثة، قلت له لكنني بصفة عامة أتحفظ على قراءة مثل هذه الأعمال الكبيرة مترجمة، قال عندك حق، لكنني -كروائي -أستطيع غالبا أن أشعر بالهنات والنواقص، وأتصور أنني أستطيع أن أملأها، فيصلني العمل شبه كامل، أقرب إلى أصله،
..فقلت له لقد تحفظت على كل ما قرأت مترجما إلا عددا قليلا مثل ترجمة سامي الدروبي لديستويفسكي، إنني أحيانا أشعر وأنا أقرأ ترجمة الدروبي أن ديستويفسكي كتب باللغة العربية أولا ثم ترجم إلى الروسية، فوافق شيخي قائلا: ".. سمعت عنها مدحا كثيرا، لكني قرأت ديستويفسكي بالإنجليزية. فلم أجد مبررا أن أقرأه ثانية بالعربية، قلت: والأصعب حين تكون الترجمة نقلة ثانية أو ثالثة وليست من اللغة الأصلية، قال: فعلا، إن ديستويفسكي هذا بكل عظمته وإبداعه تـُـرجم لأول مرة ترجمة سيئة بالإنجليزية، فلم يلتفت إليها أحد، ثم جاء مترجم آخر وترجمه ترجمة وافية أمينة، وخذ عندك دخل ديستويفسكي تاريخ العالم الغربي والعالم أجمع..، ثم أضاف: مصداقا لما قلت فإن البعض يرجع شهرة رباعيات الخيام في الغرب إلى ترجمة الكاتب البريطاني إدوارد فيتسجيرالد أكثر من الرباعيات نفسها..."
شربت شفطتين من القهوة السادة، وأنهى الشيخ التلاوة، وفي طريق العودة ذكرت لشيخي أنني كنت هممت أن أقوم بنقد مقارن بين "مائة عام من العزلة، وثلاثيته، لكنني عدلت بعد نقدي لرائعته "ليالي ألف ليلة"، وأيضا نقدي المقارن لأسطورته "رحلة ابن فطومة، مقارنة بساحر الصحراء لكويلهو" ثم نقدي لأحلام فترة النقاهة، وأنني حمدت الله أن عدلت عن مقارنة لاحت لي لمجرد أن كلا من الثلاثية ومائة عام من العزلة رواية أجيال، حمدت الله لأن الأوْلى بالمقارنة بمائة عام: هي رائعته "ليالي ألف ليلة، وكذلك أحلام فترة النقاهة، لما بهما من سحر وأساطير وأحلام وتكثيف شعري لا مثيل له. ولم يعقب شيخي.
أقفلت ضوء ساعتي، وأحكمت قبضتي على عجلة القيادة، وأفقت لأجدني أقود سيارتي وحدي، يغمرني يقين أن كل هؤلاء الذين جاءوا في هذا المقال، سوف يلتقون عند ربهم، يرحمهم بفضله، ويجزيهم عنا وعن البشرية خير الجزاء.
نقلا عن جريدة اليوم السابع
السبت: 19-4-2014
واقرأ أيضاً:
من منظومة القيم الجديدة: فضيلة الدهشة/ هجاء البراءة، والثورية المثالية، وثقافة السلام/ البصق على كرامة البشر.. وبيت المقدس