لا، ليست رواية كازانتاكس، مع أنني أعجبت بها جدا، وقدمناها في ندوة ثقافية من ندوات جمعية الطب النفسي التطوري منذ ثلاثين عاما، ولا أعرف لماذا لم أربط بينها وبين زوربا اليوناني، مع أن المؤلف المبدع واحد، ومع أنني أيضا أحب رواية زوربا بشكل يفوق الوصف.
رأيت المسيح عليه السلام يوم الخميس الماضي وهو يصلب من جديد، وهو يحتجّ على اليهود وهم يخلون بيت المقدس من المصلين المسلمين، وهو يدافع عن حق المسلمين في آداء صلاتهم في أوقاتها في مسجدهم التليد، ثم رأيته وهو يـُرفع بعد صلبه، أو بدون صلبه، لكنه في الحالين يرتفع إلى السماء لنكمل نحن رسالته به ومعه.
قبل المسيح عليه السلام بأكثر من ألفي عام كانت مصر تحتفل بعيد "بستان الزروع": عيد شم النسيم هو عيد مصري، وكلمة "شم النسيم" هي كلمة مصرية (قبطية)، حيث: .. "شوم" تعني "بستان"، و"نسيم" تعني "الزروع"... وقد تطوَّر نطق الكلمة مع الزمن فصارت "شم النسيم، وكانت مصر تصلي لنفس الإله مهما اختلفت الأسماء.
منذ طفولتي ولي علاقة بهذا العيد: شم النسيم لا أعرف لها سببا خاصا، كنت أنتظره طفلا بشوق شديد، عزوت ذلك أحيانا إلى أنه كان قبيل الأجازة الصيفية، لكنه كان بالنسبة لي أكثر من ذلك بكثير، مع أنني لا أتلقى فيه "عيديات" من الأهل والأقارب، لكني كنت أنتظره، وكانت أمي ليلة الأحد تضع تحت وسادتي، ووسادات إخوتي بصلة خضراء، كانت رائحتها بالنسبة لي أجمل من رائحة أية وردة عطرة، لا أعرف لماذا، (طبعا أمي لم تكن تعرف كيف ارتبط البصل عند قدماء المصريين بإرادة الحياة، وقهر الموت، والتغلب على المرض)، وكنت أفرح بالبيض الملون، وأشترك أحيانا في اختيار ألوانه، ونادرا في تلوينه فقد كانت أمي تخشى على ملابسي، أكثر من خشيتها على يديّ،
وكان صالح أفندي (ناظر محطة الدلتا) وعم سعد (الأشرجي) يشاركوننا فرحتنا، ويعيّدون قبلنا بيوم، فكنت أعتبر عيدهم هو "الوقفة" وعيد شم النسيم هو "العيد" ونفرح معا بحق، فرحة أعمق من كل القبلات وأصدق من معظم الأحضان .
اليوم هو عيد القيامة، وغداً هو شم النسيم، ولم أستطع أبدا أن أفصل بينهما ولو بليل واحد، أنا لا أدعي الانتماء إلى ما يسمى المواطنة، ولا أحب ترديد مقولة الدين لله والوطن للجميع، فالدين لله والوطن لله والجميع لله، لكن لله الحق العدل العليم، وليس لله الذي أحتكر رضاه ورحمته وجناته من لا يعرفه أصلا،
جعلت هذا الصباح أهنئ من أمكنني الاتصال بهم هاتفيا من أبنائي وبناتي المسيحيين، وأدعو لهم ولأسرهم بالفرح والعطاء، وتساورني هواجس وأنا أدعو، إذ كيف نفرح ومصر تبكي، فأختم المكالمة بأن يحفظ الله مصر، حين تستقل عن أمريكا وإسرائيل التي تصلب المسيح كل عام، بل وكل يوم، من جديد.
حين كنت أعد نقدي لرواية كازانتاكس "المسيح يصلب من جديد" طلبت من أحد أبنائي المسيحيين أن يحضر لي ما أقرأه عن "القيامة" لعله يوضح لي أكثر فكرة "القيامة" عند إخواننا المسيحيين، فأحضر لي كتابا أو أكثر لأبونا "متى المسكين"، قدس الله روحه، وفهمت الفكرة، وفرحت لها، فقد كان فكري التطوري، من واقع ممارستي، يتبلور حول إعادة ولادة الإنسان باستمرار من خلال "الإيقاع الحيوي" المتجدد طول الليل والنهار، وبالذات إيقاع دورات "النوم والحلم"،
وتحضرني دائما وأنا أشرح نظريتي هذه دعوة الاستيقاظ، فأشعر أن المؤمن الحقيقي، حين يقول وهو يستيقظ "الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني، وإليه النشور"، إنما يقرر اعترافه بما يعنيه الإيقاع الحيوي من موت وبعث باستمرار، بمعنى: أن كلاَّ منا يولد كل ليلة "من جديد"، فكيف بالله عليكم نستكثر على المسيح القيامة، وكل واحد منا يفعلها كل ليلة بفضل الله؟!
لم أقف طويلا أمام هذا الذي يصر عليه المفسرون وهم يعمِّـقون الفرق بين أن تكون قيامة المسيح بعد موته ودفنه بأيام، أم تكون دون دفنه، وقد شـُـبـِّه لهم، فالحد الفاصل بين وعي الموت ووعي الحياة ليس بهذا العمق كما يتصور عامة الناس، المهم أنه رفع إلى علّيين، ليثبت أن اليهود القتلة أعجز من أن يمحوه محوا حتى وإن دفنوا جسده، وأن ما خيل إليهم أنهم فعلوه،هم لم يفعلوه، لأن إرادة الله هي التي تـُحيي وتـُميت بالمعنى الحقيقي والباقي، أنا لا أفسر التنزيل، وإنما أفرح بالاستلهام الذي يوحد الناس إلى وجه الله.
في رواية كازانتاكس، جسّد الشاب منولويوس آلام المسيح عليه السلام.. ،...فأظهر هو وزملاؤه إخلاصًا وصدقًا في كفاحهم للعدل ولإيواء أخوة مُستضعفين من قرية مجاورة، ...فصُلب من جديد!!
ثم دعوني أختم بنصٍّ من الرواية يقول:
"... الله موجود يامنوليوس، موجود حتى في أصغر حصاة، حتى عند الحيوان الأكثر وضاعة، وفي النفوس الأكثر ظلامًا، فدعنا نقوم بما نستطيع لجعل قريتنا الصغيرة، خليتنا، تشعّ إلى ما حولنا بالوجود الإلهي ونكون مُجدّين، ومزدهرين وموحدين، لأن العمل الصالح حتى في أقصى صحراء، تتردّد أصداؤه في كُل أرجاء العالمْ"
وفي رواية مصرالآن، على كل منا –يا منوليوس-أن يتأكد أنه لم يعد أمامنا سبيل إلا الاستقلال بالعمل الصالح، الذي لا بد أن يتردد صداه في كل أرجاء العالم" وكل عيد قيامة ونحن نولد من جديد، وكل شم نسيم، والبصلة الرمز تؤكد لنا إرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض، مرض التبعية، والغفلة، ومرض وضع اللوم على الآخرين، والصياح، والاستعجال دون عمل.
نقلا عن جريدة اليوم السابع
الأحد: 20-4-2014
اقرأ أيضاً:
عزاء جارثيا ماركيز في مسجد عمر مكرم / عن الثورة والنظرية والأيديولوجيا والدين