رجعت أول ما رجعت إلى كتاب فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر، فإذا به شديد التواضع في مقدمته حين يقول إنها عبارة عن خواطر "..... ليست لشرح أهداف ثورة 23 يوليو 1952 وحوادثها، وإنما دورية استكشاف لنفوسنا لنعرف من نحن وما هو دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات.... إلخ ..." وهذا أقرب إلى الإبداع منه إلى تطبيق فلسفة أو نظرية، برغم ما صارت إليه الأمور.
قلت مرارا إن الثورة هي إبداع جماعي، والإبداع عملية حمل ومخاض وولادة وتشكيل، فهي عملية جارية، وليست تطبيق نظام له قياساته وحساباته النظرية المسبقة، هذا لا يعني أن الثورة –أية ثورة -ليست لها أهداف محددة، أو معالم مميزة، لكن العملية التي تسمى ثورة والتي تبدأ بالتفكيك، فالفوضى، فإعادة التشكيل لا يكفيها الخطوط العامة ولا النظرية الجاهزة، وهي لا تسمى ثورة إلا إذا بدأت، ونجحت في إعادة التشكيل، بعد مرحلة التفكيك،
وهي لا تبدأ التشكيل بأن تنفذ "الماكيت" المرسوم لها، وإنما ليتخلق منها ما هو جديد جميل مختلف نافع باق، فتتخلق النظرية التي ترعى الوليد الجديد، وهي ليست أبدا الشعارات الحماسية التي صاحبت لحظات الاندفاع للتفكيك، النظرية الجديدة لا بد أن تكون ضد استمرار الفوضى، وهي لا تعني في نفس الوقت انتهاء الثورة، بل استمرارها.
نحن الآن في مرحلة التشكيل التي تسمح بتخليق نظرية تناسبنا، وإن كانت غير كاملة، فهي سوف تكتمل بالممارسة، قد تبدأ من خطوط عريضة ملزمة، لكننا لا بد أن نكون على استعداد طول الوقت للتعديل والتطوير دون إعاقة للمسار، أو انتظار لاستكمال التنظير.
ما هي الخطوط العريضة التي يمكن أن تساعدنا على بلورة نظرية تتناسب مع العقد الثاني من الألفية الثالثة تصلح لبلدنا هذا في وقتنا هذا، في محيطنا الأقرب فالأبعد؟ هل لا بد أن تكون النظرية فريدة نوعها غير مسبوقة نظرا لتميزنا القومي واللغوي والحضاري، أم يمكن أن نستلهم بعضها من التاريخ والجغرافيا، تاريخنا وتاريخ العالم، وجغرافية بلادنا الإقليمية والعربية، وكذلك جغرافية العالم؟ هذه ليست مهمة المنظرين على المكاتب مهما بلغ علمهم، ولكنها نتاج الممارسة السليمة ممن يديرون الدولة في الظروف الجديدة، وهم يستوعبون الوعي الشعبي المتخلق بعد الفوضى المرعبة.
ثم ما هو زمن الامتحان الذي علينا أن نسلم بعده ورقة الإجابة مكتملة أو شبه مكتملة وفيها إجابة عن "ما هي النظرية وراء 25 يناير" ثم ما هي النظرية وراء "ثورة 30 يونيو"..إلخ هل على الشباب (والكبار) أن يذهبوا ويذاكروا مقرر النظريات السياسية المعاصرة ويقارنوا بينها، ثم يختاروا الأصلح لنا، أم أن علينا أن نحسن الممارسة، ونحترم الوقت، ونستلهم تجارب الآخرين (وليس فقط أيديولوجياته) لنخرج بالأصلح لنا؟
هناك فرق جوهرى بين الأيديولوجيا كنظام متكامل جاهز (عادة جامد)، وبين النظرية القابلة للتوليد المستمر إبداعا، فى إطار الالتزام والمرونة حول الهدف المحوري الضام للقوى الجديدة، مع تحديد المحكات التي نقيس بها أولا بأول. الأديان في جوهرها رحمة من الله سبحانه تسمح بتنمية إبداع الوعي البشري العام إلى خير كل الناس فيتوجهون مكرمين متناغمين مع الوعي الكوني إلى وجه الله، لكن حين انقلبت الأديان إلى نظرية، ثم إلى أيديولوجية، أصبحت وصية وصاية جاثمة على وعي الإيمان والإبداع وحركية التوجه إلى الله سبحانه ، فكان ما كان.
لا يمكن أن نفرض نظرية جديدة جاهزة صادرة من المكاتب على الوعي المصري فرضا، وبالذات على وعي الشباب المصري الذي نشأ بلا مدارس، وبلا قيم حقيقية، وبلا علاقة بربه حوارا وتوجها وصلاة وابتهالا، وبلا تواصل مع الناس الحقيقيين باحترام وعدل، كما لا يجوز أن نستسلم لنظرية مستوردة من الماضي سابقة التجهيز حتى لو أخذت اسما دينيا (إسلام الإخوان الحل)، أو مستوردة من أسواق المستغلين المستكبرين تحت أسماء معاصرة (الديمقراطية، وسياسة السوق، وحقوق الإنسان: هي الحل).
لا مفر من أن ندفع ثمن الذي كنا فيه، وليس فقط ثمن طول فترة التفكيك (الفوضى)، نحن نحتاج وقتا وصبرا وجهدا وإبداعا لتكون عندنا مدارس بمعنى: الثقافة والمجتمع والقيمة والقدوة، من سن الثالثة وحتى الثلاثين،علينا أن نصبر مقابل ما ضاع منا من وقت، وأن نرفض التبعية بكل مستوياتها مهما كانت الأزمة، ولاح الإغراء، ولن يمكن لعامة الناس أن يقبلوا التلويح بالصبر إلا إذا رأوا التغيير الإبداعي في كل موقع، بدءا من المدرسة، إلى الشهر العقاري، مرورا بالنشر، وثقافة الحرب (الاستعداد المستمر)، والإنتاج، والاستقلال في كل المجالات.
نحن المسلمين، نحن شعوب العالم الثالث، نحن دول البريسك، نحن روسيا بوتين، نحن الاستقلال الاقتصادي، نحن اللغة العربية التي هي حضارة قائمة بذاتها (لا الظاهرة الصوتية المفرغة)، نحن السوق العربية المشتركة، نحن التعامل بأية عملة غير الدولار، قادرون على تخليق نظرية إلى الله، لنعبده في كل ثانية كمحور لوجودنا يحاسبنا في كل ثانية عن كل ثانية، لنا ولكل الناس،
وهذا ممكن لأنه خلقـَنا لهذا وليس لكي نتبع الإسلام (الأيديولوجيا) حلا، ولا الديمقراطية (الدين) حلا .
نقلا عن جريدة اليوم السابع
الثلاثاء : 22-4-2014
اقرأ أيضاً:
المسيح يصلب من جديد / العقل العربي والمحظورات السبعة!