نحن أحوج ما نكون إلى تعميق علاقتنا بربنا مباشرة من خلال كدح السعي إليه، بكل العبادات والوسائل من التسبيح إلى الإبداع إلى العمل وبالعكس، حتى لا ننساق وراء قشور من لا يعرفون طريق الحق، فيستعملون شوقنا الفطري إلى الله سعيا إلى وجهه، لخدمة مطامعهم في السلطة والمال والبنون. مصر فيها دين طبيعي بسيط، يعرفه كل مؤمن جميل بسيط، مما يأتي الله بقلب سليم.
الذين يعبدون الله على حرف يتمحكون في معلومة من هنا، أو رأى عابر جاء في حوار في رواية أو مسرحية هناك، فيهتفون متشنجين أن الله موجود كما جاء في قول فلان (يا حبذا لو كان خواجة، في رواية كذا)، والذين يعبدون الله على حرف أيضا، يلتقطون معلومة علمية جزئية محدودة، فيها شبهة تماس مع بعض ألفاظ نص مقدس، وهات يا تفسير الدين بالعلم، والعلم بالدين، بما يشوه كلا من الدين والعلم معا.
المعرفة الأصل، والفطرة السليمة تتجاوز هذا التلفيق والتشويه، لتظل حركية الإيمان/الإبداع/التعمير/نفع الناس: هي الوجود البشري في أنقى صورة.
الإيمان موقف وجودي حياتي حيوي، يمتد بالوعي البشري إلى الوعي الكوني كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/ جماعية بقائية/ تطورية/ متجددة/ مستمرة، لا يمكن اختزالها إلى أي شعار، أو تهميشها بأي قرار أو تنظيم، كما لا يمكن حبسها بأية وصاية أو تقـزيم.
خذ مثلا ما شاع بفرحة ساذجة عن كيف أن ديستويفسكى في "الإخوة كارامازوف" قد أنهى أو كاد ينهي الرواية بإعلان ما معناه "إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح"، أذكر أن الرواية حين تمصرت فيلما "الإخوة الأعداء" وقيلت هذه الجملة بلهجة خطابية في الفيلم، صفق الناس في الصالة، وهللوا، هؤلاء الناس الطيبون يصفقون لعبارة حوارية عابرة مستوردة، تؤكد لهم "نفع" وجود الله، فيعلنون بذلك هشاشة إيمانهم، وضعف يقيينهم، وكأن مثل هذه العبارة هي إثبات جديد أن "الدين كويس جدا"، أو"أن وجود الله مفيد أيضا"!! وبالتالي علينا أن نتمسك به، وننتخب بالمرّة كل من يلوّح لنا أنه قادر على نشره وصيانته!
هيا نقرأ –كمثال- ما أسعد الناس فصفقوا له، يقول: إيفان كارامازوف ما وصل إلى المشاهدين أنه: "... إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح"، أو بالنص:
"... إذا فقدت الإنسانية هذا الاعتقاد بالخلود فسرعان ما ستغيض جميع ينابيع الحب، بل سرعان ما سيفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم في هذا العالم، أكثر من ذلك أنه لن يبقى شيء يعد منافيا للأخلاق، وسيكون كل شيء مباحا حتى أكل لحوم البشر"، فيصفق الناس وينسون أن إيفان يقول في نفس الرواية: "... لا يعلم أحد ماذا كان يمكن أن أصنع به ذلك الذي اخترع الله أول من اخترعه، إن الشنق قليل عليه..".
علاقة الإنسان بربه أقوى وأقدم من هذا وذاك، هذا ما يعرفه الأطفال، والعجائز، وكل من أتى الله بقلب سليم.
كتبت –ناقدا –من وحي هذه الرواية "إنه لم يظهر فرد في الرواية صغيرا أو كبيرا لم تمثل عنده قضية الإيمان ووجود الله (وليس فقط الدين) محورا خطيرا وأرضية متفجرة، لا إيليوشا ابن الكابتن سينجريف ولا أبوه ولا إخوته، ولا أمه"، أوصلني نقدي للرواية إلى فرض يقول باستحالة الإلحاد بيولوجيا، بمعنى أنه وصلني كيف أن تنظيم الخلية البشرية في ذاته، يتوجه بطبيعة فطرته نحو استعادة هارمونيته مع تنظيم الكون على اتساعه، وأن الوعي بهذا النزوع يوجهنا بشرا لنبدع أنفسنا بتجدد متصل نحو استعادة التوازن مع الكون، فنؤمن بالله،
وأن أية مخالفة لهذا القانون البيولوجي الحافز إلى التناسق الإيماني، ليس إلا من ألعاب العقل المبرمج حديثا من خارجه، أما الخلية فتظل مبرمجة تطوريا بما يوجهها إلى إطلاق فطرتها، وإلا ضمرت وفنيت، الأمر الذي لا مجال لتفصيله هنا والآن. المهم أن قضايا الإيمان والتدين تتفجر بكل إشراقها من أصالة حركية الإبداع، إقرارا وإنكارا، وأن هذه الحركية هي الآلية الأساسية اللازمة لتحريك جدل الإيمان، وأنها ما زالت قائمة وفاعلة في عمق وجود شعبنا الأصيل.
محفوظ قدّم لنا الطريق إلى الإيمان في معظم أعماله، إن لم يكن كلها، وفي رأيي –وقد صارحته بذلك –أن "أولاد حارتنا" كانت من أقلها نجاحا في القيام بهذه المهمة، مقارنة برحلة ابن فطومة، والأصداء، وملحمة الحرافيش وغيرها، وغيرها، ولنا في ذلك عودة.
الإيمان المصري العريق يتجلى في كل لحظة في كل بيت، وفي كل شارع، وفي كل وجه يعيشه أي مؤمن مصري أشعث أغبر، خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب، وهو لا يحتاج أن يتكلم صاحبه بلغة خاصة، ولا أن يستشهد بنصوص بذاتها، فهو محورٌ وجوديٌّ في حياة كل ناس هذا الشعب، ممن لم يتشوهوا بتسليم لسلفية تاريخية، أو سلفية حديثة. هذا الإيمان لا يكون كذلك، إلا إذا وقر في القلب وصدّقه العمل
هيّا معا
والله المعين
الثلاثاء: 6-5-2014 نشرت في اليوم السابع
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
اقرأ أيضا:
بين الشماريخ والإعلام: يا رب سترك / إعادة بناء القيم والأخلاق عبر أجيال متعاقبة / نادين شمس: شاعرة تكتب قصيدتها الأخيرة