في رثائي لها الذي نشر هنا في 23 مارس2014، ودعتها كابنة مصرية رقيقة جميلة قاصة وسيناريست، وأيضا كجارة، وزوجة لابنى نبيل القط، وثائرة، لكنني لم أكن أعرف جوانب أخرى من إبداعها وفضلها، وحين طلب مني نبيل أن أشارك في تأبينها بتسجيل كلمة عنها، اعتذرت لجهلي ببقية أبعاد ما تمثله وما فقدناه بفقدها، فـأتحفني ببعض ذلك، فافتقدتها أكثر، ودعوت لها أصدق، وتأكدت من استجابة ربي لما أنهيت به كلمتي الأولى "لا عليك يا نادين: ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، واطمئني على هذا البلد الطيب الذي أنجبك، فهو بلد ولود، والله يحبه، ويحبك".
أعطاني نبيل مجموعة حوارات كانت قد أجرتها مع عدد من المخرجين المبدعين، جمعها محبوها بعنوان "شهادات المخرجين"، كتبتْ لها نادين استهلالا -وصلني قصيدة جميلة -بعنوان: "ما يشبه المقدمة" كما كان ملحقا بالعمل عدد من اللوحات التي شكّلتها بنفسها، فتأكدت أنني أمام شاعرة مبدعة على أكثر من مستوى:
الشعر الحقيقي لا يستعمِل الألفاظ إلا كوحدات بنائية لتشكيلات لغوية جديدة شكلا وإيقاعا، حالة كونها تعلن حركية الجدل الحركي الولافي بين الظاهرة الإنسانية الوجودية الأعمق وبين الواقع المتجدد بالفعل الخلاق، في الشعر تتفجر علاقات وتركيبات جديدة، تحيل التشكيل اللغوي السابق العاجز عن استيعاب الجاري إلى تشكيل أكثر قدرة وأجمل إيقاعا وأطوع مرونة وأدق تصويرا. ينشأ الشعر، بل يلزم، حين ترفض الظاهرة المعيشة أن تـُسجن في قوالب ألفاظ أعجز عن احتوائها، إذْ ترفض أن تنحشر في تركيب لغوي جاهز. فالشعر-إذن -هو عملية إعادة تخليق الكيان اللغوي في محاولة تشكيل أقرب ما يشير إلى الخبرة الوجودية المنبثقة، تشكيل يجمع بين اللغة والصورة والإيقاع في تناسق جديد مخترق".
دعنا نسمع نادين في قصيدة الاستهلال وهي تعزف:
"أعرف أنك تقف هناك.. على حافة الأشياء، كبهلوان يسير على حبل مشدود وسط ساحة كرنفال.. بملابس ملونة وقناع، فلتترك عصاك ولتغمض عينيك، ولتدع قدميك لصوتي.. فقط دعني أراك، دعني أرى قلبك.. هلا خلعت هذا القناع"! (مخرج).
ثم إني مررت بشهادات المخرجين فإذا بها ذات حس متماسك واحد بغض النظر عن اسم المخرج الذي يدلي بآرائه بضمير المتكلم، وشعرت بنقلة جمالية، ومسئولية تحريرية، وأمانة، وعجبت كيف جعلت نادين كلام هؤلاء المبدعين يبدو كأنهم واحد لا كـُثـْر، كيف جعلت كل هذه الشهادات تكتمل في لحن متكامل، برغم اختلاف العازفين وكثرتهم، وسوف لا أتطرق إلى ذلك الآن.
حين اطمأننت إلى حسي النقدي، تذكرت فجأة أدونيس في رثائه لصلاح عبد الصبور وهو يقول: الموت "ذلك الشعر الآخر"، فشعرت وأنا أستعيد دراما رحيلها أنها كانت تكتب قصيدتها الأخيرة، وهي ترسم النقلة بين الوعي الشخصى، والوعى الكوني، ونحن نعدو خلفها في جزع الفقد نعزف لحن رحيلها البالغ لإيلام، فرجحت سلامة فرضى عن كيف أن الموت هو "أزمة نمو" تختم ملحمة "جدل الفصل الوصل".
ثم تنتهي قراءتي لها بالإنصات إلى اللوحات الشعرية الأخير، بعنوان "الداخل.. الخارج"، فأتذكر ما تعلمته من شيخي الأول الراحل محمود محمد شاكر، من قصيدته على قصيدة الشماخ بن ضرار الغطفاني "القوس العذراء"، وهو أن الشعر لا يـُنقد إلا شعرا،"، وفي نقدي لأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، حين اكتشفت -بدءا من الحلم رقم "53" وحتى "209"، أنني أمام لوحات شعرية مكثفة، شعرت أنه لا ينبغي أن أواصل نقدها باعتبارها طلقات قصصية سريعة، فأكملتها باجتهاد متواضع بما أسميته "تقاسيم على اللحن الأساسي" في كتابي الذي صدر من دار الشروق.
نادين شاعرة بكل معنى الكلمة، تعالوا نقرأ هذه القصيدة، اللوحة الثالثة، من قصائد (الداخل.. الخارج):
"عندما أحرك رأسي مبتعدة بوجهي عن النافذة، كثيراً ما تلتقي عينانا، شيء ما فيهما ميت، أشرد في حركاته العصبية، اتجاهات يديه، الأشكال التي ترسمها في الهواء ثنيات الأصابع وانفرادها، كفه الصغيرة المطبقة في تحدٍّ، تقلصات الوجه العاري من التفاصيل، تمدد شعيرات الشارب الرفيع عند انفراج الثغر، حركة الشفتين الغليظتين وهي تنطبق وتنفصل، تصبح دائرية، بيضاوية، مزمومة، منفرجة، حمراء، صفراء..."
فسمحت لنفسي أن أسترجع تقاسيمي شعراً عاميا، يصلح نقدا مناسبا لهذه الصورة الجميلة، جاء في ديواني "أغوار النفس" حين وصفت لعبة الصمت في العلاج الجمعي قائلا:
فتَّــحْْ عينَـكْ بُصْ،
إنْ كنت شاطـرْ حِـسْ.
"أنا مين؟"! ما تقولشْ ْْ
مجنونْ؟ ما تخافشْ.
جرّب تانىِ، مِا لأَولْ:
...راح تتعلم تقرأ وتكتب من غير ألفاظ:
مش بس عْنيك، تدويرةْْ وِشــّـك،
وسلام بُـقَّـكْ عَلَى خَدّك،
والهزّه فْي دقنـَك، وكلامِ اللون :
اللون الباهتِ الميّتْ، واللون الأرضي الكـَلـْحـَان،
واللونِ اللي يطق شرارْ، واللون اللي مالوش لونْ،
وعروق الوشْ، والرقبهْ، وخْطوط القورةْْ،
وطريقةْ بَلْعَكْ ريـقــكْ، تشويحةْْ إيدكْ......
وبعد...
دعينى أذكـّرك يا نادين أن الأكبر حين يفقد عزيزا أصغر، يتألم أفجع، حتى أنني، كما ذكرت في رثائك الأول، كلما عشت هذه الخبرة أشعر أن عليّ أن أعتذر للصغير أو الصغيرة الراحلة، إذْ كان ينبغي عليّ أن أسبقه، ولعلك تذكرين تلك اللمسة الإنسانية المؤمنة وهي تتجلى في حزن النبي عليه الصلاة والسلام على ابنه إبراهيم، برغم رضاه الكامل بقضاء الله وهو يقول: "وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون" وأيضا وصلني قريب من هذا من رثاء أبي العتاهية لابنه "عليّ" قائلا:
كفى حزنا بدفنك ثم أني...... نفضت تراب قبرك عن يديّا
وكانت في حياتك لي عظات... وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وأنتِ اليوم يا نادين أقربُ، وأجملُ، وأطيبْ.
لكننا لفراقك –يا نادين -لمحزونون.
اليوم السابع الأحد: 4-5-2014
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
اقرأ أيضا:
إعادة بناء القيم والأخلاق عبر أجيال متعاقبة / الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصري / نحن لا نفقد الأمل، ونواصل السعي، والله المعين