العالم يتداخل ويذوب في محلول الوجود الأرضي، الذي يتصاغر ليتحول إلى قرية كونية، قادرة -إذا شاءت -على التفاعل بإيجابية من أجل أن تتواصل الحياة.
العالم انتقل بسرعة فائقة جدا إلى عصر ما بعد السرعة والذرة والعلم، وأصبح منساقا وراء أعماق الوعي والإدراك، ومضى يطوف الفضاءات الأخرى باحثا عن قرية كونية، ليقيم معها علاقات ويرى حقائق الأشياء، التي عاش في أوهامها وتصوراتها ومعطياتها المختلفة ذات الآثار المتباينة.
العالم الذي أخذ البشر فيه يفكر بآليات التفاعل مع النواة والنويات في أعماق الخلايا الحية، ويأتي بتقنيات التداخل العلاجي على مستوى الكروموسومات، والحوامض الأمينية والمرسلات ما بين النواة وسايتوبلازم الخلايا لصناعة البروتينات اللازمة لظاهرة الحياة والسلوك.
العالم الذي تطورت فيه تقنيات السيطرة عن بُعد .
فالجراح ربما يقوم بعمليته الجراحية وهو في قارة أخرى والمريض في قارة ثانية، وفقا لتكنولوجيا الروبوتات وتطورات التصوير الإليكتروني، والتواصل عبر شبكات الاتصال المتفوقة وبسرعة مذهلة.
العالم المشحون بالتنوعات المتنامية والأفكار الحامية والتطلعات المزدحمة، والطموحات التي تتوافد إليه كالشلال المتدفق من ينابيع العقول المتوقدة.
عالم تتسابق فيه المخترعات والرؤى والتصورات وتتفجر الأفكار.
عالم يدخل في آفاق الناناتكنولوجي الذي تصير فيه المليمترات قياسات كبيرة جدا، وفي علوم الفضاء التي تصبح فيها الأميال قياسات صغيرة جدا.
عالم الجينوتكنولوجي والبايوتكنولوجي وتكنولوجيا الخفايا والأسرار، وتوجهات حقن النويات وسايتوبلازم الخلايا، وليس الأوردة والشرايين والعضلات.
عالم تكنولوجيا اللامعقول التي أذهلت وحيرت العقول.
وعالم نائم في قبور الأجداث ومشغول بما مضى وانقضى، ويهمه ما قاله فلان وما فعله علان، ولماذا جلس على الكرسي فلان ولم يجلس عليه فلان، ومنهمك بعلوم تشريح الأجداث ونبش القبور والبكاء على مقابر الضمير الجماعية، التي تتوطن النفوس والعقول والخيال، فتراه لاهيا في فصول مسرحية البهتان.
العالم الذي نعيشه في عتبة القرن الحادي والعشرين يقف أمام محنة كبيرة، وامتحان حضاري وكوني كبير، وعليه أن يخرج من عاداته ومن صناديق رؤاه الماضوية، ويتفاعل بمحبة وسلام وقدرة على تحقيق السعادة للجميع، لكي يهنأ البشر بهذه الإنجازات المتسابقة إلى حيث الآفاق اللامحدودة، في مملكة الإبداع والابتكار التقني التي أخذت بالصعود إلى ذروتها اللانهائية.
العالم بحاجة إلى أن يكتشف مقتربات جديدة، وتوجهات ذات فائدة إنسانية شاملة للمجتمع الأرضي، بعيدا عن صناديق العزلة وخنادق البغضاء والكراهية والأحقاد وسوء الفهم، والتمترس في دروع المشاعر السلبية والعواطف المؤذية للذات والآخر.
العالم عليه الخروج من رحم الأزمات الغابرة، وينفض غبار القرون القاسية، ويرى الشمس، ويغني للمحبة والألفة والرحمة والسلام.
وأن تستثمر البشرية جهودها وطاقاتها كافة من أجل أن تبدأ مشاريع السلام والمحبة، وتتوحد جهودها من أجل إزالة الفقر والجوع والجهل، وحماية البراءة من الموت والامتهان، ولكي تنعم المخلوقات الأرضية بسعادة التكنولوجيا والتقدم المعاصر، الذي وصل إلى أروع ما يمكن أن يصل إليه جهد إنساني خلاق في تأريخ الأرض.
العالم في وقت اكتشافٍ لوسائل صيرورته الجديدة، وتفاعلاته المتلائمة مع العصر التقني الذي أصبح فيه.
وهو في مراجعة متواصلة لمفردات وعناصر وتصورات واقعه بأسرها، للخروج بسياقات حضارية ذات قدرة على المواكبة والصعود إلى قمة القرن الجديد، الذي يتحرك بسرعة تسابق الضوء في مجموع جهوده وإضافاته الإبداعية والتقنية والمتلاحقة.
عالم تتساقط فيه شركات عملاقة وتولد أخرى، وفقا لمفردات الحركة العلمية الجديدة، وتتبدل الأشياء بسرعة أيضا.
فالأدوات التي تم استخدامها في الأمس لا يمكنها أن تعاصر اليوم، وما عندنا اليوم لا يعاصر في الغد.
عالم يتم فيه إنتاج الملايين من أجهزة الكومبيوتر يوميا، في ظاهرة لم تشهدها الأرض من قبل، مما حولها إلى عالم يميل إلى التعبير الحقيقي عن نفسه ووجوده، وهويته الكونية المتمثلة في نقطة متناهية الصغر في محيط الأكوان المطلق المزدحم بالأجرام، التي تتفوق بحجمها على الأرض بما لا يحصى من المرات.
الأرض تميل إلى الإقرار بكونها نقطة أو جرم صغير جدا، وما على الأحياء التي تتوطن هذه البقعة الصغيرة إلا أن تقر بحقيقتها، وتتفاعل مع بعضها من أجل الحفاظ على النقطة بخصائصها في بحر اللامنتهى الكوني، وقرب إخوانها الأجرام التي تدور مثلها حول الشمس وحول نفسها، وهي في غثيان وتفاعلات كهرومغناطيسية لا ندركها، ولا نعرف كيف تحقق هذا الثبات الدقيق والتواصل البقائي المتفاعل بمقدار.
العالم يتهاوى على ذاته وما بقيت بقعة أرضية لا تؤثر في بقعة أخرى منها، وما عادت الأفكار رهينة الصناديق والأزمنة والطرقات.
لقد أصبحت تحلق في فضاءات الأرض بحرية تامة، وتحط على الأغصان والأشجار وتتفاعل مع الأدمغة، وتصنع ما تصنعه من خلال ما تؤثر في هذه البقعة أو تلك.
وما عادت العقول المنغلقة المسجونة في بئر الذات العميق، بقادرة على المواكبة من غير الخروج من ظلمتها، والتفاعل مع ضوء العالم المتعدد الألوان، الذي يمنح الحياة البهيجة والسعادة، ويفتح أمامها الآفاق الرحبة لصيرورة إنسانية مثلى، خالية من أمراض الرؤى والتصورات، وبعيدة عن خنادق المآسي والويلات.
العالم الأرضي المتدفق بالحياة وتنوعات الإبداع والأفكار، صار نسيجا زاهيا بألوانه وصوره وأشكاله، يبعث على الفخر والزهو والمحبة والأمل والرجاء، الذي يدفع إلى الخروج من معاقل احتكار الرؤى إلى سوح تفاعلاتها، وتنميتها وتثمير الإيجابيات وطرد السلبيات، وتأكيد الموضوعات الصالحة لبناء الحياة السامية، التي تليق بالإنسان المعاصر المتحضر، الذي أضفى عليه ضوء المعرفة والعلم قدرا من الوعي والفهم، الذي لم يتحقق لأجيال بشرية من قبله، فعليه أن يسعد بنعمة المعرفة والابتكار والإبداع، لا أن يحولها إلى نقمة وأداة للكراهية والبغضاء، فيُحزن الأرض ويصيب الأجيال بالأوجاع.
إنها الأرض التي تفخر بحملها وبما أنجبه العقل الخلاق، وتريد الخير منه وتبغض الشر كله.
إنها الأرض تريد أن تعيش سعيدة زاهية في عالم الأكوان المتعدد الصياغات والألوان.
عالم مولود من رحم الاختلافات والتفاعلات الخلاقة، في فضاء متمدد يستوعب الجديد، ويمنح الفرصة لكل مولود يغني للحياة، ويصنع الأمل والفرح والارتقاء، المنسجم مع إرادة الدوران السرمد!!
واقرأ أيضاً:
الميزان والسلوك!! / الظالمون! / عيون اللحظة / الإبداع الديمقراطي