لدي صديق فيسبوكي يعلق بين الحين والحين منبها إياي أن الفيسبوك لا يكفي لإصلاح الأحوال، ولا هو يقوم بديلا عن التواجد بين الناس، والعمل المباشر معهم من أجل التغيير!
وأنا رجل يأكل الطعام، ولا يحب الأسواق، وأركب المواصلات العامة غالبا، ولست بعيدا عن الناس حتى يقال لي ذلك، لكنه ربما لا يعرفني كفاية.. بل إن إحدى بناتي قالت لي يوما: يا بابا.. شكلك كده.. غاوي شعب!! أي من حبي للاختلاط بالناس والتفاعل معهم، والحقيقة أن هذه الخلطة شرط لمعرفة كيف يعيشون، وللتعلم منهم، ولا أترك أنا فرصة تلوح ويتاح لي فيها وقت إلا وكنت مع الناس منصتا، ومعلقا، ومتفاعلا، وكم كانت سعادتي غامرة بالملايين في المسيرات والميادين، حين رأيت المصريون يتواصلون بحق، لأول مرة، بهذا الحجم، وذلك القرب، حتى خرجت من الثمانية عشر يوما بما سألت عنه أستاذي المخضرم البروفيسير يحيى الرخاوي من أن ميدان التحرير كان أكبر جلسة علاج جماعي في التاريخ، بكل شروطه، ونتائجه، ووافقني!
كما خرجت بقناعة أنه لا أمل لنا في مستقبل دون تواصل وحوار ومعايشة حرمنا منها أنفسنا سابقا، ويحرمنا منها كل استبداد، وكل غياب أو قلة وعي!
يعيش المصريون عزلة تستحق الدراسة، رغم كل هذا الضجيج والزحام والكلام، يعيشون وكل منهم محبوس في كمبوند (جيتو) طبقته، أو طائفته، أو جماعة وظيفته، أو ديانته، أو منطقة سكنه!
ويعتمدون في معرفة بعضهم البعض على إعلام ثبت بالقطع أنه مضلل ويعمل لمصلحة مموليه وينحرف به التحيز إلى حد الكذب الذي يصل إلى البهتان في أحيان كثيرة!
وهم يلجأون إلى تلقف وتداول الشائعات بدلا من التدقيق والتوثيق والتحقق المباشر لأسباب منها الانشغال، ومنها الكسل، ومنها توحش مدينة القاهرة من حيث الحجم، ومن حيث صعوبة الحركة فيها، وصعوبة التواصل بين من يقطنون في منطقة بعيدة عن المناطق الأخرى –بداهة -في رقعة تتوسع دون تخطيط، ودون طرق سالكة، أو مواصلات عامة سريعة ولائقة!
وهنا تبدو المفارقة فارقة حيث أجد عندي على الفيسبوك مثلا كتابات معتبرة لأصدقاء من أعمار مختلفة، وخلفيات متنوعة، وهم يطرحون أفكارا جديرة بالنقاش المستفيض، وكذلك من الصديقات اللائي يشاركن بخواطرهن وأفكارهن ما يظلمه الطابع اللحظي الخاطف، والمتشظي المتناثر.. للفيسبوك! بينما الجميع يشكو تسطيح وسخف وتضليل الإعلام الفضائي، والجرائد، ونشكو التدابر والتلاوم والتباعد بين الناس، ولا يتحرك أحد لتغيير هذا البؤس!
عندي عدة نماذج لكسر هذا النمط من الحياة الاجتماعية.. أولها في القاهرة حيث يفتح زوجان من الهند بيتهما في ضاحية المعادي الراقية للناس كل ليلة يجتمعون للتأمل بطريقة تنظيم التنفس والوعي بالذات، وحين تتسنى أمامي الفرصة للحضور أجد روحا من التآخي والتراحم والدفء الإنساني يعمقه أن كل أنشطة هذا البيت مجانية، وفرصة التواصل ميسرة ويومية!
خبرة أخرى مشابهة يجمعنا فيها دكتور في الهندسة يهوى الموسيقى الكلاسيكية.. نلتقي في بيته مرتين كل شهر، نستمع إلى مختارات من أنواع الموسيقى الكلاسيكية مع شرح يتطوع هو به أحيانا، أو يكلف به أحد الحضور، ويشيد كل من حضر اللقاء بنفس روح المحبة، والدفء، ويفتقدون اللقاء إذا تأخر، أو حين ينقطع في شهور الصيف!
نسخة من كتيب مترجم عن "لاهوت التحرير" حصلت عليها من صديقة كاثوليكية عزيزة لتضيف إلى معرفتي بهذه الحركة العالمية المهمة التي بدأت في خمسينات/ ستينات القرن الماضي، والإضافة كانت خاصة بطريقة عمل وانتشار هذه الحركة التي كانت تنشأ مجموعات عمل وتواصل في كل منطقة بحيث يلتقي فيها الناس من خلفيات طبقية ومعرفية مختلفة يناقشون شئون حياتهم، ويقرأون الكتاب المقدس ويتأملون فيه بشكل مستقل عن كهنة الكنائس، مما أزعج الكهنة والجهات الأمنية.. على حد سواء!
صديقة أخرى تكره الفيسبوك، وتقول أنها لا تعترف إلا باللقاء المباشر بين الناس، وتستخدم المصطلح المعروف لدى أهل التصوف من أنه تلزم "الحضرة" ليحصل التواصل والتعلم المتبادل والتأثير النفسي والروحي، ومن ثم تغيير الوعي، ومواصلة النضج، وتثاقف العقول، وتقارب الأمزجة!
فكرت لو أن كل منا كانت له حضرة أسبوعية في منطقته، يتواصل فيها من يحضر من جيران أو أقارب أو أصدقاء، ويتبادل فيها الحاضرون الحكايات عن حياتهم، والأفكار، والأخبار، ويتعاونون على الخير والبر، ويتأمل بعضهم بعضا، ويحسون من حولهم فرحا أو جرحا!!
قوة الناس في اجتماعهم، وكتاب الله يربط بين التفرق والبغي بين الناس وبعضهم، وما صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، وما الحج.. إلا حضرات دورية يلتقي فيها الناس لتحقيق معاني التواصل، ولابد من حضرات تشمل أبناء الوطن الواحد، أو لا يكون المجتمع إلا مجرد ذرات هباء ينثره كل مستبد عابر، أو يجمعه لمصلحته، ثم يفرقه كما يحلو له!
وكل رمضان وأنتم طيبون.
واقرأ أيضًا
الذي انهزم/ نسيم النفحات