كلما تساءلت لماذا " اقرأ" هي أول كلمة هبطت من السماء على نبي الرحمة, أقول: متى نقرأ؟ وأجد بأننا لا نقرأ!!
قد تكون هناك أسباب كثيرة يمكن للمفكر والباحث أن يأتي بها لتبرير أول خطاب ما بين السماء والأرض وبلسان عربي هو " اقرأ ...اقرأ...اقرأ"!
فأمة العرب لم تكن أمة قراءة وكتابة بقدر ما كانت أمة رواية وقول, كمعظم الأمم آنذاك, وكثر فيها الرواة والحفظة, ولم يكثر فيها الكتّاب والقراء أو تزدهر صناعة وتجارة الكتاب.
وجاء القرآن يصدع بآياته ويهز كيان الوجود العربي بأفكاره ورؤاه, فكانت كلمة اقرأ مدوية وعنيفة الصدى في أرجاء الأرض العربية, لأنها مفتاح الوجود وبوابة ولوج عوالم المعرفة والإدراك, والغوص في أعماق النفس والعقل والروح.
ومن غير اقرأ لا يكون هناك عقل حكيم وفعل مؤثر في الصميم.
فالقراءة توسّع المدارك وتستجلب الأفكار, وتنقل الوعي البشري إلى حالة متقدمة عن حالته قبلها.
اقرأ... بمعنى أنك تكون وتتجدد وتعاصر وتتحقق في الحياة, وتبقى قويا مبدعا متمكنا من الدنيا برغم تغير أحوالها وسلوكها. وهي القوة التي ما بعدها قوة, والوجود الذي يتفوق على كل الوجود, والأسلوب الذي يصنع الحياة ويبني أسس الارتقاء للأجيال عبر الزمان.
اقرأ...منهل الفكر والعلم ومنبع الثقافة والدراية والتحصيل المعرفي والخبرة التي تساهم في صناعة ما لم يسبق صنعه فوق التراب من إبداعات متنوعة ذات قيمة حضارية وإنسانية.
اقرأ...صرخة السماء التي اهتزت لها الأركان وارتعش البدن النبوي على أثرها لأيام, وقد انطلق الإنسان الأكبر من أعماق الإنسان المتأمل الحيران في كنه الوجود ومنطلق الأيام والأحوال.
ارتعش رسول الرحمة لنداء إقرأ, وأدرك أن الأسرار السفلية والعلوية يمكن ولوجها باقرأ, وتعلم كيف يقرأ تلك القراءة التي لا يجيدها إلا الأنبياء, وأصحاب المقامات العلوية في عالم الخلق والأكوان.
لقد أوجد النبي الكريم (ص) أمةً تقرأ القرآن وتتدبر آياته وتتفكر في خلق السماوات والأرض, وتتعلم ما جاء فيه من الحِكم والأفكار الثمينة, فانطلقت طاقات العقول وأسست معالم حضارية سبّاقة في أسسها ومنطلقاتها ومنابع صيرورتها واستمرارها.
وحقق ثورة عقلية وروحية ونفسية تمخضت عنها تفاعلات فكرية وإبداعات مرتبطة بالقراءة, فازدهرت الكتابة وكثر النساخون وتعاظمت تجارة الكتاب, وانتشرت الكتاتيب وصارت الجوامع مدارس حية للقراءة والكتابة وحفظ القرآن.
ومن ثورة القراءة وقوتها وصرختها انطلقت العلوم وتطورت وأصبح للفكر مقامات وصولات, فأنجبت الأمة أعلاما رسخوا في قلب الزمن وغيّروا مسيرة الأجيال, وانتقلوا بالإنسانية إلى عوالم فكرية وآفاق حضارية لم تعهدها من قبل.
ومنذ ذلك الوقت والأمة تهتم بالقراءة والكتابة وتتأكد في مسيرتها, فدونت نشاطاتها الإنسانية بلغتها وخصوصا بالشعر الذي صار ديوانها.
وبرز فيها المؤرخون والنابغون في صنوف العلوم والمعارف والدراسات, والأبحاث والنشاطات العلمية والفكرية المتنوعة.
وتركت للأجيال تراثا عظيما متفوقا على تراث أمم الأرض.
هكذا فعلت كلمة اقرأ في أمةٍ ما كانت تقرأ!
وبعد أن قرأت الأمة ما قرأت وألفت ما ألفت وصنفت ما صنفت, تراها اليوم تخاصم القراءة وتجهل فنونها وأصولها, والكتاب فيها خاسر ولا قيمة له أو دور في حياتها.
وتأتيك الإحصاءات والبيانات لتشير إلى أن أمة اقرأ لا تقرأ!
بينما عندما ننظر إلى أمم الأرض نجد أنها أمم قارئة, وطباعة الكتاب فيها مزدهرة ومتطورة ورقيا واليكترونيا, ومطابعها لا تتوقف عن الإنتاج ولو لوقت قصير.
ففي البلدان المتقدمة لا تخلو حقيبة الأشخاص من كتاب أو كتب للقراءة عندما يتوفر الوقت.
فترى الناس تقرأ في أماكن الانتظار, وفي السيارة والقطار والباخرة والطيارة وعلى السواحل, وأي مكان يخلو الإنسان فيه مع نفسه.
ولا توجد دائرة أو مكان تنتظر فيه إلا ووفر لك فرصة لكي تقرأ شيئا وتتعلم جديدا.
وأصبحت معظم وسائل الاتصال والتفاعل البشري مبنية على "اقرأ".
والشخص في العالم المتقدم يقرأ العديد من الكتب سنويا, وفي العالم المتأخر لا يقرأ كتابا طول العمر.
فما أن يغادر المدرسة حتى يتحول إلى عدو لدود للكتاب, فيعلن الخصام عليه ولا يقترب منه في أي وقت من الأوقات, وكأن القراءة في عرفه عيب أو نقيصة.
وهكذا فإن القراءة ومنهجها قد غاب عن حياتنا.
وليتأمل أي منا كم من الجالسين في مقهى أو نادي يقرءون, فإنه لن يجد أحدا, بينما لا يكون كذلك في الدول المتقدمة, فالناس تقرأ في كل مكان, لأن القراءة عادة فردية واجتماعية وقيمة حضارية عالية, والكتاب مبذول في الأسواق, فعندما يذهب الشخص لشراء طعامه وحاجاته الأخرى, تراه قد اشترى مجلة أو كتابا لكي يقرأه, فهو يطعم بدنه وعقله في آن واحد, ويدرك أن المعرفة قوة وهي تتحقق بالقراءة.
والمكتبات العامة يزدحم أمامها الناس عند الصباح قبل افتتاحها, فتتعجب من هذا السلوك الذي لا نعرفه, فزاد العقول والنفوس نظير زاد البطون, أما نحن فلا نطعم أبداننا ولا عقولنا بصورة صحيحة.
إن عادة عدم القراءة هي التي تسببت في الكثير من الويلات والتفاعلات السلبية في مجتمعنا, ولأننا لا نقرأ ولا نتفحص ونبحث ونتابع تجدنا نصغي لهذا وذاك, ولا نمتلك رأيا مفيدا, ولا نعرف كيف نتحاور, ولا نتقن مهارات اختلاف الآراء والتصورات.
ولكي نكون لا بد من العودة إلى نداء السماء, والاذعان لإرادة الوحي وصرخته في غار حراء لكي نحقق وجودنا اللائق بأمة اقرأ.
"....وخير جليسٍ في الأنامِ كتابُ"!!
واقرأ أيضاً:
حرب على حرب!! / الإرادة المستلبة والمفروضة!! / تساؤلات في زمن محموم!!