تحدثنا قبل ذلك عن أسباب تدهورنا الأخلاقي, واليوم نتحدث عن كيفية بناء منظومة أخلاقية بناءة في مجتمع عانى من الفساد كما عانى من انهيار الأخلاق وما زال.ولكي نبدأ هذا الموضوع لابد وأن نتأكد من قيمة وأهمية الأخلاق في حياتنا إذ يعتقد البعض أن الأخلاق أصبحت ترفا تاريخيا فلسفيا, وأن الحياة الحديثة تقوم على العلم والتطبيق والمنفعة والعائد, وهذا جهل بالعلم والأخلاق معا, فالعلم يصف الواقع ويكتشف قوانين الكون ولكنه لا يرتقي بالحياة ولايصنع المستقبل في حد ذاته, أما الأخلاق فهي استيعاب للواقع ثم ارتقاء فوقه سعيا نحو "مثل أعلى" يشحن إرادة الإنسان بطاقة هائلة تدفعه نحو حسن توظيف العلم والقفز نحو المستقبل وصياغة هذا المستقبل ليصبح أفضل من الحاضر والماضي.
فالأخلاق تخلق مجالا من الحرية يتم فيه تصنيع الإرادة الإنسانية وتصنيع الجهد الإنساني وتعبئة طاقات النفس لكي تحقق ماتراه مثلا أعلى في حياتها ولتتغلب عل العقبات التي تواجهها ببذل مزيد من الجهد وتحمل الكثير من الألم للوصول إلى الهدف، إذن فالعلم وحده لا يحقق نهضة الشعوب والعمل وحده لا يستطيع أن يحدد ملامح المستقبل أو يفجر طاقات البشر, ولكن القيم الخلقية العليا هي التي تفعل ذلك, إذ هي التي ترفض وضاعة الواقع وتواضعه وتهفو إلى سمو "المثل الأعلى" وتحرك الإنسان من موقعه الأدني إلى تشوقه الأعلى مستفيدا من وسائل العلم والعمل.
ولهذا تنهض الأمم بثلاثي: "الملهم والعالم والمنفذ" فالملهم هو الزعيم الذي يحمل قيما أخلاقية عليا تشحن أبناء الوطن بالرغبة في الحياة والارتقاء, والعالم يعطي وسائل وطرق تحقيق الغايات والأهداف, والمنفذ ينقل رؤية الملهم والعامل لأرض الواقع، وبدون الأخلاق لانجد أنفسنا متحمسين للعمل أو بذل الجهد ولا نجد أنفسنا طموحين إلى معالي الأمور فتتهاوى هممنا وعزائمنا وتتقزم تطلعاتنا وتنحدر معاييرنا الشخصية والوطنية والإنسانية.
والضمير (الشخصي والعام) هو نتاج لمنظومة أخلاقية ترسخت عبر السنين وأصبحت تتطلب معايير عالية في السلوك والعمل وتدفع نحو إتقان العمل والصدق والأمانة والوفاء والحب والبناء, وكلها قيم تضمن ازدهار الحياة وتطور المجتمع.
والسؤال الآن: بعد أن عرفنا أهمية الأخلاق في بناء الفرد والمجتمع .. كيف نحسن من منظومتنا الأخلاقية المتردية والمتدهورة؟
أولا: لابد من تنبيه كل طوائف المجتمع وأفراده إلى أهمية الأخلاق في التنمية والتطور والنهوض وصناعة الحياة وأنها ليست شيئا هلاميا أو ميتافيزيقيا.
ثانيا: الاهتمام بروافع الأخلاق التي ذكرناها في المقال السابق وهي العقل والعلم والدين والقانون والتقدير الاجتماعي والضمير, وذلك بالحفاظ على العقل من فيروسات التشوه الفكري والخرافي والاهتمام بالعلم الصحيح من خلال تعليم جيد, وتنقية الدين من الشوائب التي لحقت به وأبعدته عن جوهره الأصيل وغاياته العليا, وتفعيل القانون الذي يثبت ويؤكد القيم المستقيمة, وتصحيح التقدير الاجتماعي الذي يعزز القيم الأخلاقية الإيجابية ويطفئ ويضعف القيم الأخلاقية السلبية, وأخيرا رعاية الضمير الشخصي والعام في مراحل النمو والتكوين من خلال التغذية الصحيحة للقانون الأخلاقي الأعمق في جوهر النفس.
ثالثا: الاهتمام بالمؤسسات التي تزرع القيم الأخلاقية وترعاها وهي على سبيل الحصر:
1 – الأسرة .. من خلال تمكينها من استعادة دورها التربوي وإعطاء القدوة في الوالدين, وتفعيل الأخلاق في الحياة الأسرية اليومية.
2 – المدرسة .. والتي يكاد دورها التعليمي والتربوي أن ينهار تماما مع فلسفة تعليمية وتربوية خاطئة أدت إلى خلق نوع من التعليم الموازي أو التعليم البديل في الدروس الخصوصية، ولم يتوقف الانهيار التعليمي على ضعف البث الأخلاقي الإيجابي بل امتد إلى بث أخلاقي سلبي من خلال نماذج مشوهة في المجال المدرسي.
3 – المؤسسة الدينية .. بكل تفصيلاتها وعناصرها والتي عجزت عن توصيل الرسالة الأخلاقية السامية للأديان وكان عجزها دافعا لدخول فيروسات شبه دينية جاءت من هنا أو هناك فشوهت حالة التدين السائدة وجعلتها بعيدة كل البعد عن الأخلاق السوية, بل إن بعض الدعاة كانوا نماذج سيئة للأخلاق ففتنوا أتباعهم ومحبيهم.
4 – القانون .. والذي اضطرب تطبيقه وأصبح انتقائيا أحيانا ومحابيا أحيانا أخرى أو حتى غائبا أو ضعيفا أو مسيسا بما جعل سلوك البشر يضطرب لأنه فقد هيبة القانون واستقامته والتي تحقق ثبات القانون الأخلاقي واستقرار المعايير المجتمعية فيما يجوز ومالايجوز.
5 – الإعلام .. والذي يشكل فكر ووعي المجتمع وأصبح له تأثير هائل في ذلك, ومع هذا للأسف الشديد فقد كانت النتيجة النهائية للبث الإعلامي تشويه للمنظومة الأخلاقية من خلال برامج "التوك شو" أو الأفلام أو الدراما, وهذا لاينفي جزء تنويري لا ينكر في الأداء الإعلامي ولكنه يتوارى خلف حالات الهبوط الأخلاقي التي يبثها الإعلام بوعي أو بغير وعي من الكذب وتزييف الحقائق والدفع بنماذج غير أخلاقية على الشاشات وأمام الميكروفونات أو تقديم مواد تشوه التقدير الاجتماعي للسلوك بحجة أن هذا هو الواقع وأن الإعلام ليست وظيفته وعظية أو إرشادية.
فالإعلام بصورته الحالية يركز على الانحدار الأخلاقي ويؤكده ويرسخه ويجعله نموذجا للأجيال المتأثرة والمبهورة بالرسالة الإعلامية.
واقرأ أيضاً:
اغتراب الشباب / لماذا تدهورت أخلاقنا؟