الطبيب الذي يعمل في اختصاصات الطب الباطني والجراحة يواجه ويتخذ القرار بوقف العلاج الطبي أو الجراحي وتحويل المريض إلى قسم الطبابة الملطفة Palliative Medicine يتم ذلك الإجراء بعد اقتناع الطبيب وفريقه المعالج بأن العلاج لا فائدة منه وقد يعاني المريض بسببه أكثر مما يعاني من الداء نفسه. إن أمكن يخبر الطبيب المريض شخصيا ولكن لابد من إعلام عائلته أو أقرب شخص له في جميع الأحوال. بعدها يختفي المريض من سجلات الفريق ويتم فتح سجل وقتي له عند فريق آخر.
فرع الطب الملطف Palliative Medicine أو العناية الملطفة
يعني دوماً بالمرضى في أواخر أيامهم وإن كان الاختصاص يرعى بعض المرضى الذين يعانون من آلام مزمنة. يستقبل هذا الفريق المرضى من جميع الاختصاصات الطبية إلا الطب النفسي.
تفسير هذه الظاهرة يتعلق بفلسفة الطب النفسي وموقعه في علوم الطب عموماً. الطبيب الباطني والجراح يقول دوماً بأن مهمته إطالة أمد الحياة وإنقاذ حياة المريض ولا يبخلون بالسخرية أحياناً من الطب النفسي بسبب ذلك. أما الطبيب النفسي فيجيبهم دوماً بأن مهمته الأولى هي تحسين جودة حياة المريض وإن كان لا يطيل أمدها عند الكثير.
الجواب يقتنع به جميع العاملين في الصحة النفسية ولكنه لا يقابل بالتأييد الحار من بقية الاختصاصات الطبية التي لا تخلو من التمييز ضد الصحة النفسية حالها حال الجمهور عامة.
ولكن الطبيب النفسي يتم حشره أحياناً في علاج الاضطرابات النفسية المتعددة المصاحبة لمختلف الأمراض العضوية. ويمكن تلخيص دور الطبيب النفسي في هذه المرحلة كما يلي:
علاج المريض لكي يتعاون ويتم علاجه من مرض آخر لإطالة أمد حياته.
هكذا يفهم الطب العام والجراح والطبيب النفسي المعادلة. قد يشكر الجميع الفريق الطبي والجراحي على هذه المهمة ويستثنى من ذلك دور الطبيب النفسي وفريقه.
ولكن الطبيب النفسي وفريقه أحياناً يواجهون معضلة يصعب عليهم استيعابها لعدم الخوض فيها بصورة منتظمة واتخاذ القرار الحاسم بشأنها وهي:
هل مرحلة المريض وصلت الآن إلى مجرد إطالة أمد الحياة لتلقي علاج بدلاً من علاجها لإطالة أمد حياته؟
إذا كانت الإجابة بالإيجاب على الشطر الأول فالقرار هو وقف العلاج.
إذا كانت الإجابة بالإيجاب على الشطر الثاني فيستمر العلاج.
هذه المعادلة يسهل الخوض بها في كافة الفروع الطبية باستثناء الطب النفسي. يستعرض هذا المقال بعض المواقف التي تواجه الطبيب النفسي واتخاذ القرار باستمرار أو توقيف العلاج في مجال الطب النفسي للبالغين Adult mental Health .
الصحة الجسدية والصحة النفسية
1- القرارات السهلة
يمكن القول بأن المرضى المصابين بالاضطرابات العقلية أكثر عرضة للإصابة بأمراض جسدية لأسباب بعضها وراثية والأخرى بيئية. معدل عمر الإنسان المصاب بالفصام أو الذي يعاني من الاكتئاب أو الثنا قطبي أقل بكثير من بقية السكان حتى لو تم وضع نهاية الحياة بسبب السلوك الانتحاري.
يضاف إلى ذلك أن المرضى المصابين بالاضطرابات العقلية المزمنة أقل التزاما من غيرهم بالنصائح الغذائية العامة وممارسة الفعاليات الرياضية والإقلاع عن التدخين واستعمال المواد الكيمائية الضارة ومن ضمنها الكحول.
هناك أيضاً العقاقير المستعملة في الطب النفسي. رغم أن فائدة هذه العقاقير على المدى البعيد والقريب أكثر بكثير من أعراضها الجانبية ولكن لا يجوز إنكار وتحوير الحقائق وهي أن معظمها تؤدي إلى زيادة في الوزن وارتفاع معدل السكر في الدم وبالتالي يكون الفرد عرضة للإصابة بمختلف الأمراض الجسدية.
يتم استشارة الطبيب النفسي عن جدوى استمرار علاج الاضطراب النفسي في المراحل المتقدمة من المعاناة من مرض جسدي لا يستجيب للعلاج. يتحرج الجميع من وقف استعمال العقاقير المضادة للذهان خوفاً من صعوبة تقديم العناية التمريضية للمريض في هذه المرحلة ولذلك نرى بأن القرارات المتاحة للطبيب هي:
1- وقف العلاج نهائيا.
2- تخفيض جرعة العقار.
3- استعمال العقار عند الحاجة.
الغالبية العظمى من الأطباء يفضلون الثاني والثالث رغم عدم وجود دليل علمي يؤكد بأن استعمال هذه العقاقير يؤدي إلى تخفيض درجة معاناة المريض.
أما العقاقير المضادة للاكتئاب فاستعمالها أحياناً يساعد من تخفيف شدة الألم ولذلك يحبذ الكثير عدم وقفها رغم أن فعاليتها في تخفيف الألم في المراحل المتقدمة من الأمراض الجسدية لا يستند إلى دليل علمي مقنع.
2- القرارات الصعبة
القرارات أعلاه هي قرارات سهلة ولكن هناك قرارات أصعب منها في بعض حالات الممارسة السريرية للطب النفسي التي قد تواجه الأخصائي في هذا المجال. اتخاذ هذه القرارات تكاد تكون حصراً على الأخصائي ويتحمل هو وحده مسؤولية اتخاذ القرار رغم أنه يستشير فريقه وأحياناً يثبت استشارة زميل له في نفس الاختصاص3.
الاكتئاب:
يواجه الطبيب النفسي حالات اكتئاب مقاومة للعلاج في مريض مصاب بمرض جسدي مزمن وبالتحديد عجز الكلى1 الذي يتطلب عمل غسيل منتظم للكلية وفي انتظار عملية زرع. يستسلم الطبيب النفسي لضرورة استعمال الخلبي الكهربائي (الصدمة الكهربائية). علاج عجز الكلى يتطلب تعاون المريض وعجز الكلى هو أيضاً لا يساعد المريض على التحول من حالة وجدانية مكتئبة إلى حالة وجدانية مرضية والاستجابة لعلاج الاكتئاب. علاج الاكتئاب في هذه الحالة هو من أجل علاج عجز الكلى الذي يرفضه المريض ومن هنا تبدأ حلقة مغلقة ويبدأ الطبيب النفسي بإعطاء علاج للاكتئاب يرفضه المريض ولا يستجيب له. في مرحلة ما يجب على الطبيب استشارة زملائه وذوي أهل المريض وربما اتخاذ القرار الصعب بوقف العلاج والنفسي والعضوي في آن الوقت. في هذا المجال يمكن القول بأن لا فائدة من إطالة عمر المريض فقط لإعطائه علاج لا يستجيب له.
القهم العصبي:
علاج القهم العصبي يستند على تغذية المريضة بصورة أو بأخرى. هناك مرحلة تصل إليها بعض الحالات حين لا تستجيب للعلاج ويتم تغذيتها قسراً وحتى عن طريق الوريد أو الأنابيب. هذا النوع من التغذية يتطلب تعاون المريضة مع الفريق التمريضي المشرف على التغذية ورغم أن الغالبية العظمى من المريضات يستجبن للعلاج ولكن هناك أقلية لا تستجيب للعلاج ولا تتعاون مع الفريق ويقر الفريق الطبي والتمريضي بالهزيمة2. هذا القرار بالهزيمة لا يقتصر فقط على الطاقم الطبي والتمريضي بل يشمل الأهل أيضاً. وقف العلاج في هذه الحالة أصعب بكثير من حالات الاكتئاب لأن غالبية المريضات إناث لم يدخلن العقد الرابع من العمر وعليه يلجأ الطبيب النفسي والمؤسسة التي يعمل بها إلى القضاء للحصول على قرار قانوني يساند وقف العلاج. تختلف اللوائح القانونية من بلد إلى آخر في هذا الأمر وحتى في عدم وجودها يستحسن استشارة رجال القانون.
الانتحار:
السلوك الانتحاري لا يقتصر فقط على المرضى المصابين باضطرابات عقلية جسيمة وإنما يشمل أحيانا أفرادا يمرون بأزمة اجتماعية أو عائلية. من جراء ذلك يحتل هذا السلوك بأنواعه وأسبابه مرتبة عالية في استعمال قسم الطوارئ في جميع مستشفيات العالم. يتم فحص المريض من قبل ممرضة نفسية مختصة بهذه الحالات هذه الأيام والتي تستعمل إرشادات وتعليمات تدربت عليها وتستشير الطبيب النفسي عند الحاجة فقط.
عمل وإنجاز الممرضة في هذا المجال أفضل من الطبيب وخاصة الأطباء العاملين في قسم الطوارئ الذين يضيقون ذرعاً أحياناً بسلوك انتحاري متكرر لبعض الأفراد. على سبيل المثال تسمع عن طبيب يعمل في قسم الطوارئ يرى نفس المريض كل بضعة أيام يحاول الانتحار بالوقوف على سكة حديد قطار المدينة. كان رد فعل الطبيب بعد أن فقد توازنه إعطاء المريض جدول أوقات مرور القطارات من المكان الذي يقف فيه لتحقيق رغبته في الانتحار.
رغم أن الكثير من المرضى المدمنين على السلوك الانتحاري لا يعانون من اضطراب عقلي جسيم يتطلب العلاج ولكن هناك حقيقة لا جدال فيها وهي أن وجود تاريخ سلوك انتحاري Suicidal Behavior مهما كان يزيد من احتمال انتحار الفرد في المستقبل مهما كانت الأسباب. قد لا يوجد اضطراب عقلي يستوجب العلاج الطبي النفسي ولكن هناك من يحتاج إلى مساندة اجتماعية من الخدمات الحكومية والخيرية.
هناك شروط معينة (مثل رجال في متوسط العمر وتاريخ عائلي انتحاري) متى وجدت يتم إخضاع الفرد للمراقبة الطبية النفسية القسرية. رغم عدم وجود أعراض اكتئاب سريري واضح يتم وصف عقاقير مضادة للاكتئاب بل وحتى مضادة للذهان للتخلص من الأفكار الانتحارية. ويبقى المريض مصراً على عدم فائدة العلاج وعن رغبته في التخلص من الأفكار عن طريق الانتحار ويقول بأنه ضاق ذرعاً بالحياة ولكنه غير مكتئب.
هذا الطريق المسدود في وجه المريض والطبيب على حد سواء يدفع الطبيب أحيانا إلى التخلي عن المريض وتركه ليسير فيه وحيداً. هذا القرار أشبه بكابوس للطبيب النفسي وكثيراً ما يحدث هو نصيحة المريض بالاستمرار على العلاج مع تدوين وجود القدرة العقلية الكاملة فيه لاتخاذ القرار وعليه كذلك الاستعانة باستشاري طبي خارج الطب النفسي أيضاً لإثبات وجود مثل هذه القدرة العقلية. لكن النصيحة باستمرار العلاج تتناقض مع سلوك الطبيب في التخلي عن المريض ولذلك يفضل البعض وقف العلاج لعدم وجود اضطراب عقلي يمكن علاجه. القرار الثاني أفضل من الأول ويجرد الطبيب النفسي من المسؤولية القانونية بعد حدوث الانتحار بدلاً من مناقضة نفسه بإعطاء المريض عقاقير لا فائدة منها ويربطها البعض بتولد أفكار انتحارية.
أما مساعدة المريض على الانتحار فلا وجود لها في الممارسة الطبية النفسية وهي جريمة يحاسب عليها القانون.
مصادر:
1- Burton H, Kline S, Lindsay R, Heidenheim A(1986): The relationship of depression to survival in chronic renal failure. Psychosomatic Medicine 48, 3.
2- Hebert P, Weingarten M( 1991): The ethics of forced feeding in anorexia nervosa. CAN MED ASSOC J 144(2).
3- Lo B, Jonsen A(1980): Clinical Decisions to limit treatment. Ann Intern Med 93: 764-768.