لقد بهرت إنجازات تحتمس الثالث العسكرية التي سجلها في عديد من النقوش على لسانه شخصيًا أو على لسان كتابه المؤرخين المحدثين، وإذا كانت الانتصارات العسكرية في حد ذاتها ليست عملًا متميزًا، فإن ما ميز تحتمس الثالث كان خططه وتكتيكاته العسكرية ورؤيته الاستراتيجية الثاقبة، لقد حدد تحتمس الثالث أهدافه بدقة وعرف كيف يحققها، ووضع الخطط العسكرية الفذة، بمقاييس عصره، التي أربكت العدو الذي يحاربه، ففي موقعة مجدو كان اتخاذه الطريق الوعر غير المتوقع عنصرًا حاسمًا في نجاحه في حصار خصومه داخل أسوار مدينتهم، مدينة مجدو، وفي حربه مع ميتان اتبع أسلوبًا مبتكرًا بنقل السفن برًا على عربات حتى شواطئ نهر الفرات ثم قام بمفاجأة الأعداء بهجومه الخاطف، وقد أشار عالم المصريات سليم حسن إلى أن القائد البريطاني الكبير مونتجمري، الذي هزم الألمان بقيادة روميل في العلمين سنة 1942، قد اتبع نفس التكتيك العسكري بعد تحتمس بثلاث آلاف سنة فى معاركه العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، مستخدمًا أسلوب تحتمس في عبور الفرات عندما قام بعبور نهر الراين.
ولكن هل غيرت هذه الحروب من طبيعة الفلاح المقاتل المصري؟
تأمُل حوادث التاريخ يكشف عن أن الفلاح صانع الحضارة والنماء ظل يؤمن بالحرب دفاعًا عن الحق لا الحرب من أجل العدوان، وطوال ثلاث آلاف سنة تقريبًا هي عمر الحضارة المصرية القديمة، نجح الجيش المصري في صد الغزوات الأجنبية غزوة وراء غزوة، وظل الطابع الدفاعي غالبًا على العقيدة العسكرية المصرية، حتى عندما فكر المصريون في عصر الدولة الحديثة في بناء إمبراطوريتهم في غرب آسيا، كان هذا ردًا على احتلال الهكسوس للبلاد الذي يعتبر من أطول فترات الاحتلال في تاريخنا القديم، والتي ذاق فيها المصريون وطأة الحكم الأجنبي، ومن هنا فالأرجح أن بناء الإمبراطورية المصرية كان لهدف دفاعي بحت لضمان حماية البلاد من الغزوات المتكررة التي تأتي من الشرق.
لقد دفعت سنوات حكم الهكسوس لمصر بالمصريين إلى الانطلاق شمالًا وشرقًا لتأمين حدودهم في البداية، ثم أغرتهم الانتصارات ببناء إمبراطورية كبيرة، ويبدو أن الغزوات الناجحة كانت تفتح شهية حكام المصريين للتوسع، فلم تقتصر حملات تحتمس الثالث العسكرية على الشمال والشرق والغرب فقط، بل امتد نشاطه إلى الجنوب، حيث نجح هذا الملك في الوصول بالنفوذ المصري إلى مناطق قريبة من الشلال الخامس في النوبة ونصب هناك لوحًا تذكاريًا يخلد غزواته، لقد كان تحتمس الثالث قائدًا عسكريًا فذًا بمقاييس عصره، حقق انتصارات خالدة وأمن حدود مصر الشرقية لقرون عديدة تالية لعصره، كما توسع في الجنوب ووصل بالحكم المصري إلى حدود لم يصلها من قبل.
لكن كيف تراجعت هذه الإمبراطورية الكبيرة وتقلصت حدودها؟
وكيف عادت مصر محتلة مرة أخرى بعد قرون من حكم تحتمس الثالث؟
لقد أدى تكوين الإمبراطورية إلى عدة نتائج، فمن ناحية اندمج قطاع من النخب الأسيوية التي تعلمت في مصر في المجتمع المصري، وانتشر الزواج بين الأمراء المصريين والأميرات الأسيويات، ومن ناحية أخرى انفصل الجيش النظامي الذي شيد تلك الإمبراطورية الكبيرة عن الفلاحين، وأصبح جيشًا طبقيًا محترفًا، ومن ناحية ثالثة تدفقت الثروات على مصر من غنائم الحروب والجبايات التي فرضت على الشعوب المغلوبة، وأصبح كثير من تلك الثروات جزء من أملاك الإله آمون، فزادت ثروات الكهنة، كما تضخم الجهاز الإداري للدولة بشكل واضح، هذه العوامل الأربعة أدت إلى تآكل الإمبراطورية بعد عدة قرون.
جاءت الضربة الأولى على يد أمنحوتب الرابع الذي سمى نفسه إخناتون، وحاول فرض هيمنة عقيدة واحدة على المجتمع المصري، العقيدة الأتونية، متحديًا خاصية أساسية من الخصائص التي قامت عليها الحضارة المصرية القديمة، أعني القبول بالتعددية والاختلاف والتنوع، كانت تجربة إخناتون نموذج من نماذج التطرف الديني، فغرقت مصر في صراعات داخلية، انتهت بنهاية عصره، وفقدت مصر خلالها كثير من نفوذها الخارجي وقوتها.
لكن الفوضى التي أتى بها إخناتون وأعقبت عصره سرعان ما انتهت على أيدي العسكريين الذين تحالفوا مع كهنة آمون، وقاد القائد العسكري حور محب انقلابًا تدريجيًا هادئًا أسس به لعهد جديد ـ بعد مرحلة انتقالية قصيرة ـ عادت للإمبراطورية فيه بعض أمجادها. ولم يورث حور محب الحكم لأحد من أسرته، بل لزميل من زملائه العسكريين، هو وزيره رمسيس الذي عرف باسم رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشر، الذي حكم لعامين أشرك فيهما ابنه سيتي الأول في الحكم، وقد سار سيتي على نهج أبيه فأشرك ابنه الذي أصبح أشهر فراعنة مصر، رمسيس الثاني معه في حكم البلاد، ودخل رمسيس الثاني في حروب متعددة مع الحيثيين استعاد خلالها أجزاءً من الإمبراطورية المصرية في غرب آسيا، لكن ظهور خطر الآشوريين دفع المصريين والحيثيين إلى توقيع معاهدة سلام، ربما تكون أقدم معاهدة سلام وصلت إلينا.
تجاوز حكم رمسيس الثاني الستين عامًا، ترهلت الدولة خلالها وفقدت مصر إمبراطوريتها تدريجيًا مرة أخرى، ورغم أن محاولات الإصلاح واستعادة الإمبراطورية قد تكررت خلال حكم الأسرتين 19 و20 إلا أن أمورًا كثيرة كانت قد تغيرت، فقد اتسعت الفجوة بين الفلاحين الذين صنعوا الحضارة وحرروا الأرض وشيدوا الإمبراطورية الأولى والطبقة الحاكمة وعلى رأسها الفرعون، تلك الطبقة التي أصبحت خليطًا من العسكريين المحترفين والكهنة والكتبة البيروقراطيين، لقد قتل هذا التحالف البغيض بين القائد والكاهن وتابعهما الموظف روح الشعب، وازداد الاعتماد على الأجانب في الجيش والإدارة، فضاعت مصر عندما غاب الفلاح صانع الحضارة وصانع النصر.
واقرأ أيضاً:
مخربشات دستورية