أشرت سابقا إلى عجزي عن التمتع برفاهية اليأس، ورحت أشجب الموقف المتشائم العاجز المثبِّط طول الوقت، مع محاولة التمييز بين يأس الغلابة المشروع، ويأس المستسلمين الخائب، وبالتالي فقد وصل تلقائيا إلى كثيرين أنني أدعو للتفاؤل بلا قيد ولا شرط، في مواجهة موقف اليأس والتيئيس هذا بكل سلبيته وإعاقته، إلا أن الأمر ليس بهذا الاستقطاب السطحي: فالتفاؤل له ثمنه إن فهمنا حقيقة ما يترتب عليه، واخترنا أن نمارس مسئوليته، وهاأنذا أحاول أن أزيد الأمر وضوحا.
طالما أننا مازلنا على قيد الحياة، وأن خالقها هو الذي سينهيها وقتما يشاء سبحانه، وأن اليأس لا فائدة منه حتى لو بدا هربا مريحا بعض الوقت، فأنا لا أملك إلا أن أتفاءل، وأحيانا أعبر عن ذلك بأنني أعاني مما يمكن أن يسمى التفاؤل المزمن، لأن التفاؤل الإيجابي عندي إنما يكون كذلك بقدر ما يكون صاحبه مسئولا عن تحقيقه، متألما إن عجز مؤقتا عن ذلك.
أعتقد أن حقيقة ما يبعث على التفاؤل حتى الآن إنما يقع تحت سطح الجاري، بمعنى أنه ليس له ما يدعمه يقينا إلا الأمل وحسن النية، وهذا من حيث المبدأ يمكن أن يكون طيبا، لكن التوقف عنده قد يكون سلبيا تماما، لأن الخوف هو أن يحل الأمل محل الفعل، وتحل الغفلة المخدرة محل ضرورة الإحاطة بالواقع المؤلم، أو تحل الوعود البراقة محل البرامج المحددة.
يمكن تصنيف التفاؤل باختصار كما فعلنا في تصنيف التشاؤم استلهاما من الوعي الشعبي، فنبدأ بتفاؤل الغلابة: وهو ما يطل من حسن نية أغلبية من المواطنين الطيبين أنه: «إن شاء الله خير» وهو تفاؤل طيب مشروع، لكنه إذا اقتصر على الابتسام الرائق، وغض الطرف عن الجاري، والتمادي في الانتظار، فهو إسهام في ألا يأتي الخير مهما تأكد الاعتماد اللفظي على أن فرجـهُ قريب، ثم يأتي بعد ذلك: تفاؤل اللي ييجي منه أحسن منه، وهو تفاؤل الانتهازي الذي يعرف الطريق إلى مكسبه الشخصي، من كل نظام، ومن كل مصدر، وهو يقيس موقفه ويحدد موقعه بشطارته وقدرته على أن يأخذ أكبر المكاسب بغض النظر عن الطريقة والمصدر، وعن نوع النظام وتغيير الأحوال، وأخيرا: تفاؤل اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش، وهو تفاؤل الراضي - ولو قهرا - بالأمر الواقع، وهو الخائف من أية مخاطرة تالية، خاصة بعد أن يكون قد لـُدغ من جحور المغامرات السابقة بما يجعله يتمسك بأي مكسب حالي، فهو الأضمن، والطيب أحسن!! والخبرة فيما اختاره الله!! وهو يمتزج قليلا أو كثيرا بما يمكن أن يصنف على أنه التفاؤل القدري الراضي، سواء كان ذلك من خلال _ قدّر الله وما شاء فعل _ و من خلال _ اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه_
التفاؤل الذي أعانيه وأرحـّب به هو التفاؤل المؤلم المسئول، الذي يبدأ بيقين أن الحياة رائعة بقدر ما نجعلها كذلك، وأن الإنسان بعد أن خلقه الله في أحسن تقويم، ورده أسفل سافلين، فتح له أبواب الإنقاذ إذا ما آمَن وعمل الصالحات، وحين يتلقى الإنسان هذه الرسالة، فيتصدى لحمل الأمانة، لا يملك إلا أن يملأ الوقت بما هو أحق بالوقت، وإلا فقد خان الأمانة وخاب في حملها ورضي أن يظلم نفسه جهلا بها، وهنا تصبح بداية الطريق هي ثقة بقدرته على تحمل نتيجة اختياره بكل المسئولية وما يترتب عليها من موقف وفعل، وبداية هذا الطريق هو أن يكون الثقة بالحياة والالتزام بتعمير الأرض هما رفع راية التفاؤل بكل ما يحمل من آلام ومسئولية ومثابرة.
إن ما يدعو للتفاؤل عندي له أساس صلب دائم، لا يتعلق بحدث بذاته، ولا بمرحلة خاصة، إنه يقين بأن ربنا خلقنا لذلك، وأكرمنا بذلك، وبالتالي فليس لي أن أغلق الأبواب مهما ضاقت السبل، فهو يقين موضوعيّ واقعيّ، لا يتحقق إلا بأن أعمل على أن أملأ دقائقي طول الوقت بما أعتقد أنه يضيف، أو يفيد، أو يصحِّح، وهذا هو السبيل الأول، وربما الأوحد الذي يبرر يقيني بأن الحال سوف ينصلح، فهو التفاؤل عملا وكدحا في كبد.
أخشى ما أخشاه أن يتصور القارئ أنني بذلك أدعو إلى حل فردي، ولعل تفسير موقفي العنيد هذا يأتي من علاقتي بالتطور، الذي يجري بفضل الله محترِما الزمن وتراكم الإيجابيات، وكفاءة البرامج التي سنها خالقها سبحانه لتحافظ على الحياة، صحيح أننا انحرفنا ــ نحن البشر ــ إلى طريق ينذر بغير ذلك، لكن صحيح أيضا أن هناك ما يبذله المحبون للحياة وخالقها (بشكل مباشر أو غير مباشر) عبر العالم، وهم لا يكفون عن المحاولة والإبداع لإنقاذ الجنس البشري مما آل إليه.
إن الذي يعي أبعاد الزمن، ويعرف بعض أرقام تاريخ الحياة لا بد أن يحترم من استطاع البقاء من الأحياء حتى الآن، والجنس البشري من بين هؤلاء، تكتمل علاقتنا بالزمن بتذكر حقيقة علمية بسيطة تنتمي إلى العلم المعرفي العصبي الحديث، وهي أن أجزاء الثواني توضع في الحسبان في تغير وتطور ونمو الفرد والجماعة والنوع.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: وإن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل.
بعد احترام ما ذهب إليه المفسرون والشراح، دعونا نتأمل هذا الحديث الرائع: أفلا يدل ببساطة شديدة جدا على أننا طالما ما زلنا نتنفس، فعلينا أن نحترم الزمن حتى لو كان الزمن قد انتهي!؟ ليس أوقع من قيام الساعة هنا حتى يدرك المرء أنها النهاية وأن الزمن قد توقف، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن هذا ليس من شأننا، وأن علينا أن نواصل النظر في إتمام ما بيدنا، وأن نترك ما بعد ذلك إلى خالقنا، وخالق ما بعد ذلك، إن قراءة هذا الحديث الشريف من هذا البعد يعفينا من كل محاولات التفسير اللفظي المباشر لتعبير - إذا قامت الساعة - وهو لا يحتاج مني إلى تفسير خاص في هذا السياق، إلا أن ما وصلني هو كيف نتعلم أن نعمل طول الوقت ونحن واثقون من قوانين أكبر منا، وغيب أرحب مما نعرف، فنواصل. بالله عليكم أليس هذا مبررا كافيا للتفاؤل الذي أعنيه؟
هيّا معا!
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
اقرأ أيضا:
نادين شمس: شاعرة تكتب قصيدتها الأخيرة / نحن لا نفقد الأمل، ونواصل السعي، والله المعين / أخبار وأفكار