كنت في مهاتفة مع أحد الأساتذة الزملاء، وقد علق على حالنا بقوله : "الدنيا ذهبت إلى أعماق الكون الفسيح ونحن لا نزال نستمع لصوت القبور"، فقلت له: لقد منحتني فكرة تصلح لمقالة، فواقع الأحداث والتطورات والتداعيات عبارة عن مشاكل ما بين أهل القبور، وكأن الأجيال المعاصرة تريد حلها وذلك بانتحارها في بعضها البعض.
فلا حاضر ولا مستقبل، وإنما الجميع يصيخ السمع لأحاديث الذين في القبور ويأتمر بأمرهم، ويردد أقوالهم، ويحسب الحياة قد توقفت أو أخذوها معهم، حتى لتجد الواقع وكأنه مصفد بهم ومأسور بأفكارهم وتصوراتهم، وأن الدنيا قد انتهت بموتهم، وما عادت قادرة على التجدد والعطاء والتواصل والانطلاق المتميز.
ترى هل أن الماضي رصيد قوة أم ضعف؟!!
المتعارف عليه بين شعوب الدنيا أن الماضي مَعين قوة، ورافد خبرة ومنارة انطلاق نحو آفاق جديرة بالرقاء والتواكب مع عصرها ومكانها، وهو خبرات متراكمة تنفع الأجيال، التي كانت تستعين بذاكرتها عليها، وبعد اختراع الكتابة أخذت تدونها وتعود إليها لكي تقدر صوابية خطوها ومعالجاتها للتحديات التي تواجهها.
وهذا ما يثير استغراب أمم الدنيا وقادتها، عندما ينظرون أحوالنا ويعرفون ما عندنا من خبرات متراكمة في ميادين الحياة كافة، حتى أن الرئيس الصيني "ماو" يُذكر أنه ضحك وتعجب من سؤال أحد القادة العرب الذي سأله النصح، فأجابه في وقتها: عندكم تراث زاخر وتجارب منيرة وتسألني النصح!!
ومعنى قوله، أيها القائد اقرأ تاريخك!!
والمشكلة التي نحن فيها أننا لا نقرأ التاريخ، وإنما يُقرأ لنا من قبل الآخرين الذين يجدون فيه ما يساهم في تعزيز مصالحهم وتطلعاتهم الامتلاكية لوجودنا بأسره؛ ولهذا تم صناعة الموجودات المنفعلة المحشوة بالنظرة السلبية للتاريخ، والمندسة في الأجداث، فتجدنا أمام أجيال من الناطقين بلسان الأموات، والذين لا يعرفون سوى الاندساس في قبورهم وإخراجهم من رميمهم ودعوتهم لمقاتلتنا أجمعين وهم حيرى، وقد ماتوا وما عادوا بقادرين على القول والقرار؛ لأنهم قالوا وقرروا وعاشوا في زمنهم، وكانوا مصيبين أو مخطئين وفقا لظروفهم المكانية والزمانية، وما كانوا بمدركين لما يجري في العالم، فقراراتهم متفقة وما كانوا يعرفون في لحظة اتخاذ القرار، أما أن نزجهم في هذا العصر المعلوماتي الفياض، ونتوهم بأنهم يعرفون، ففي هذا جناية عليهم وظلم واعتداء؛ لأننا نريدهم أن يتفاعلوا مع ما لا يعلمون ولا يعرفون.
فهم بشر كأي البشر، ومهما أضفنا عليهم من المواصفات فهم بشر، وفي القرآن الكريم الذي يخاطب النبي (ص): "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ..."18:10
دليل على أن الإنسان مهما بلغ من شأن فلا يمكن تجريده من بشريته!!
واقرأ أيضاً:
السلوك الطائفي!! / الدماغ العالمي!! / تحرير العقل قبل الأرض!! / قلْ تفرّط ولا تقل تطرّف!!