اسمها “ليل”، ليل غامض، يُنبت أضواءا في قلبه كلما مرت بذاكرته. يكفي أن تبتسم – عرضيا – كي تسقط همومه – عن يومه – دفعة واحدة. لذا كان حين يرى بيادر الحزن تحلق في سمائها، يمسك الفزع بطرف قلبه، ولا يهدأ باله حتى يعود ويُقبل الفرح ثغرها. واليوم رآها تغوص في شرود لا نهائي، هادئة على غير المعتاد. وتجاهلها له أسوأ من ذي قبل. راقب امتعاض وجهها لبعض الوقت، ثم قرر أن يحاول جرف ثلوج الصمت التي ملأت الهواء، وقال:
- مالك؟!
- نفسي في وردة، امبارح أختي مرضيتش تديني وردة من البوكيه اللي جالها هدية، بشتكي لماما، قالتلي “لما تكبري!”، أنا مش عايزة أكبر، بس نفسي في وردة!
- أجيبلك وردة، مش صعبة يعني!
تسمرت عيناها في الفراغ! لم يخدش صوته طبلة أذنها على الإطلاق، لم يكن سوى ظل لها، لا تأبه بوجوده على الإطلاق. قام هو من فوره واتجه ركضا نحو المنزل، وفي منتصف الطريق، تباطأ في السير حين ارتبكت أفكاره وارتطمت قدمه بالسؤال المحير “كيف؟! كيف لي أن أشتري لها وردا وأنا لم أتعدَّ العاشرة من العمر؟! وجيبي لا يذوق طعم المال إلا في المناسبات والأعياد!” سار وثقل الحيرة على كتفيه. لمحته “فرح”، نادته، اتجهت إليه بينما هي تقفز فرحا مختالة ويداها تداعبان أطراف فستانها القصير، وبابتسامة واسعة قالت “فارس، يا فارس! مشوفتكش من زمان، تعالى نلعب مع بعض، وحشتني، بس بلاش نلعب كورة عشان فستاني الجديد ميتوسخش، آه صحيح، إيه رأيك في الفستان؟! جالي هدية عيد ميلادي.” كانت خارج وعيه، سقط كل كلامها مغشيا عليه! تركها في منتصف بركة من الخيبة والخذلان، تناديه بصوت حزين “فارس! يا فارس!”.
وصل إلى باب المنزل، بأفكار متشابكة وعقل شبه واع بكل ما يجري حوله من ضجة إخوته. ظل واقفا لفترة من الوقت كشجرة زرعت عشوائيا في منتصف الصالة، انتقلت عيناه إلى كل غرفة في المنزل يراقب أفرادها بتمعن، يفكر فيمن يمكن أن يزرع شوكة احتيال في جيبه ليسرق منه ثمن الورد. ارتطم به أخوه الصغير بحركة عشوائية فتحرك هو بعيدا عن أجواء الحركة ليجلس في ركن هادئ يقلب أفكاره فيه.
لسعت أذنه جملة أخته التي كانت تتكلم ببرود في الهاتف مع صديقتها وتقول “عادي يعني، لما بكون زعلانه بيجبلي ورد!” تمايلت الأفكار جيئة وذهابا في عقله حتى وجد فكرته الذهبية. في الحين الذي كانت فيه أخته قد أنهت مكالمتها ومرت به ذاهبة إلى الثلاجة، أخذت تفاحة منها، ومضت نحو غرفتها، تبعها ووقف على عتبة باب غرفتها بحماس قائلا لها: “محمد أخو خطيبك بيقوللي النهارده (مشوفتش المزة الجامدة اللي كانت عندنا امبارح!) إنما هي مين دي صحيح يا دودو؟! أنا كنت هموت وأشوفها، الواد محمد بيقوللي دي كانت صاروخ” وجدت النار طريقا لها في عيني أخته، وقالت له بغضب “نعم؟! انت متأكد من اللي بتقوله دا؟!” تفتحت جميع الابتسامات الماكرة في عقله وقال لنفسه “نجحت!” هرول خارجا من الغرفة تاركا كتلة من النيران المشتعلة تشتعل في محيط أخته المسكينة التي أعماها الغضب، ظل واقفا بتحمس يتابع كيفية وصول طرد الورد له بسلام.
رآها تمسك الهاتف بعصبية تنقر بأصابعها على السرير كعادتها حين تنتابها نوبة غضب، رد عليها “إبراهيم” ضحية قدوم الورد، لم تترك له مساحة للحديث والتبرير، لطمت كلمات وعيدها له في أذنه وأقفلت السماعة، قالت له: “بأه كدا يا إبراهيم؟! بتخوني؟! مين دي اللي كانت عندك في البيت إمبارح؟! ها؟! ماتبررش! انت معندكش إخوات بنات! وكمان مامتك متوفية! يعني مفيش أي عذر لإن بنت تيجي عندكوا البيت! ماترد! ولا أقولك، مش عايزة أسمع صوتك أصلا، تعال خد دبلتك أهي! مش عايزاك! مش أنا اللي أتخان يا حبيبي!”
انتابت الأجواء شحنات توتر شديدة، سمعت أمه ضجيج صراخ ابنتها وهرولت إليها لتهديء من روعها. لم يمضِ الكثير حتى دق جرس الباب، أسرع “فارس” نحو الباب ليفتحه ولكنه وجد أخته قد سبقته بوجه متجهم، شديد الحمرة، مليء بالدموع الغاضبة والكحل السائح والشعر السائب على الكتفين بعفوية. فتحت الباب، وقابلها إبراهيم، بوجه متوجس. بينما كان فارس يبحث عن يدي إبراهيم، يبحث عن هدية “ليل”.
- مش هتدخليني ؟!
- لأ، دبلتك أهيه!
- طب ممكن تهدي وتخليني أتكلم؟!
(تراجعت داليا لتفسح له بالدخول، دخل وحين هم بإعطائها بوكيه الورد، أشاحت بيدها ليقع من يديه على الأرض)
- طيب أنا مقدر غضبك، بس أنا والله ما كان في حد عندي امبارح، أنا أصلا امبارح كنت في القاهرة في امتحان الترقية الجديدة، وكنت قايلك، صح؟! فاكرة؟! حتى كلمتيني وأنا هناك تطمني عليا وتهدي توتري!
تبدلت ملامحها هنا من حمرة الغضب إلى حمرة الخجل، كانت قد نسيت أمر امتحانه، وفوق هذا كانت معتادة على مقالب أخيها الشقي فارس، وحيله الصغيرة لينال ما يريد، همت تبحث عنه، ولكنه كان قد هرب بغنيمته. شدت على قبضة يديها بغيظ وصرخت “فااارس!”
في تلك الأثناء كان فارس في منتصف طريقه إلى ابتسامة “ليل”. يد فيها الورد، ويد تعد لحظات انتباه “ليل” له، ذاك الانتباه الذي لطالما سعى ليحصل عليه، ولم ينجح أبدا. استمر خيط خيالاته ينسل من عقله عفويا وبلا حدود، حتى انقطع فجأة، انقطع ذاك الأمل.
عيناه مشدوهتان، أعصاب يديه اختلت فسقط الورد على الأرض، فمه نصف مفتوح، غير مستوعب لأي شيء. كانت هناك “ليل” أجل، على السلالم التي لطالما أحبها، بفستانها القصير، ولكنها لم تكن وحدها، أمامها ذاك الفتى المغرور “إياد”، عدوه اللدود، وفي يده وردتان يهديهما لها، بينما هي تضحك بخجل يتخلله سرور باهر!
واقرأ أيضًا :
لستُ أنـا ! / فَـداحَـهْ ! / بَعْدُ وَبَعْدُ... / فِـقْـهُ الرَّغْـبَةِ ! / وجوهٌ شتي !! / عسى..يا عَسى! / سببٌ مَبْـحُـوح ! / عجبٌ / بكائيةٌ لا تعرفُ الضحك الجديد