لم يعد الأمن وحده هو الهاجس الأول الذي يُقلق الإسرائيليين ويقض مضاجعهم، ويُخيف قادة المشروع الصهيوني وأربابه ويُربكهم، وإن كان هو العنوان المطروح دوماً، والحاضر أبداً، والأكثر حضوراً في كل المراحل، والأكثر حاجةً وإلحاحاً لدى المستوطنين والمسئولين. فهو الشعار المعلن، والذريعة المرفوعة دائماً لتبرير أي سلوك، وتفسير أي اعتداء، وهو الوسيلة المقبولة للحصول على السلاح والمساعدات، وتأمين المعونات العسكرية والأمنية، وضمان التأييد السياسي والحماية الدولية، وقد كان العامل الأهم في جلب المستوطنين والمهاجرين الجُدد إلى فلسطين المحتلة، طلباً للأمان، وسعياً وراء رفاهية العيش واستقرار الحياة.
فقد كان الأمن وسلامة المستوطنين ومستقبل الوجود، يتصدر اهتمامات قادة الكيان الصهيوني على مدى العقود السبعة الماضية كلها، وعليه كانت تدور كل السياسة الإسرائيلية، وترتبط الاستراتيجية العامة للكيان، فلا يستطيع مسئولٌ أن يتجاوزه، ولا يقوى رئيس حكومةٍ أو وزيرٍ أن يُهمله، فقد كان الأمن يتصدر الأولويات عندهم جميعاً ويتفوق على غيرها، وكان الخوف على وجودهم ومستقبل كيانهم يُرعبهم ويُفزعهم، ويُشعرهم بأن وجودهم في خطر، وأن حياتهم غير آمنة، وأن مستقبلهم غير مضمون، وأن العرب المحيطين بهم، والفلسطينيين المتمسكين بأرضهم، ويعيشون على الأرض نفسها معهم، سينقضون عليهم، وسيُجبرونهم على تفكيك كيانهم، والرحيل من بلادهم.
ظن قادة الكيان الصهيوني أن القوة وحدها ستؤمن مستوطنيهم، وستحمي كيانهم من السقوط والزوال، وستُثبت في الأرض جذورهم، وستُعلي أسوارهم، وستُحصن جدرانهم، وأنها ستجعل كيانهم منيعاً محصناً، وقوياً يمتنع على السقوط والهزيمة، وأنه سيكون عصياً في مواجهة الخطوب والأحداث، وأنهم بالقوة وحدها سيُخضعون أصحاب الحق وسيُسكتونهم وسيُجبرونهم على القبول بالأمر الواقع، والاعتراف "بشرعية" كيانهم، والقبول بما يمنحهم ويُعطيهم، أو بما يجلب لهم ويُحقق، وأنهم سيرضون بذلك اعتقاداً منهم أنهم أضعف من أن يواجهوا الكيان وجيشه، وأعجز من أن يهزموه ويدحروه، فما لدى الكيان من أسلحةٍ وقدراتٍ وإمكانياتٍ أكبر من أن تهزمها مقاومة، أو أن تكسرها إرادة.
لكن الجديد الذي فاجأ أركان الكيان الصهيوني وأرعبهم وجعلهم يُفكرون جدياً أمام مخاطره وأبعاده، وأنه سـيكون عليهم أشـد خطراً من فقدان الأمن، وغياب سُـبُل ووسـائل السـلامـة، وأنـه سـيكون العامل الأهم في تفكيك مشـروعهم وانتهاء حُلمهم، وهروب مواطنيهم، وعزوف أبناء دينهم، وجفاف معينهم البشـري الكبير في الشـتات، كان ضعف الشـعور القومي لدى الإسـرائيليين، وفتور العاطفـة الدينيـة والعقائديـة لدى أجيالهم الجديدة، وتلاشـي الأمل لديهم في "أرض الميعاد"، واسـتعادة الهيكل الثالث المزعوم، وبدايـة التفكير المادي لدى الكثير منهم في العيـش الآمن، والحياة الرغيدة، والبُعد عن مناطق التوتر وبؤر الصراع، والحفاظ على الحقوق والامتيازات حيث هم، لكونها أفضل وأحسـن وأكثر اسـتقراراً وأثبت حالاً.
بدأ المسئولون الإسرائيليون يشعرون بخطورة ضعف الأمل لدى الإسرائيليين، وأنه سيكون ذا أثرٍ سلبي كبير على مستقبل كيانهم، وأنه قد يُضعف وجودهم، ويُعجل في أفول نجمهم، وقد كان الإيمان والأمل أهم عاملٍ في تشكيل كيانهم، وتجميع شتاتهم، وتشجيع أتباعهم، وربطهم "بأرض الأجداد، وممالك الأنبياء" وهو الذي شكل وبنى لديهم جيلاً من اليهود العقائديين الذين يؤمنون بقدسية الحرب وبوعد الرب، وبالعودة الآخرة، والهيكل الثالث، والاستعلاء الكبير.
لكن الأجيال اليهوديـة الجديدة يتنازعها أكثر من عاملٍ يُهدد المشـروع الصهيوني، ويُضعف قوتـه، ويُزعزع أركانـه الأسـاسـيـة الأولى، منها الأمن نفسـه الذي كان محط اهتمام الإسـرائيليين قديماً، وعنوان حركتهم وهجرتهم الأولى؛ فقد شـعر الإسـرائيليون أن أمنهم قد أصبح في بُعدهم عن الكيان، وأن سـلامتهم في العيـش بعيداً عما يُسـمونـه في توراتهم "بالأرض الموعودة"، وأن مسـتقبلهم وأولادهم في أوروبا وأمريكا، وفي روسـيا وأوكرانيا وغيرها، حيث النفوذ الصهيوني الكبير، والرسـاميل اليهوديـة الضخمـة، والمصالح التجاريـة، والمشـاريع الاقتصاديـة، والمسـتقبل المفتوح، والأمل الكبير في حياةٍ آمنـةٍ، لا تتخللها حروب ولا يكتنف مصيرهم فيها الغموض، ولا يعترض حياتهم مخاطرٌ وكروبٌ.
وتأكيداً على هذا الهاجس، يقول (عامي أيالون) الرئيس السابق لجهاز (شاباك) الإسرائيلي، "إنّ التحدي الحقيقي (لإسـرائيل) اليوم، هو القدرة على خلق جماعـة صهيونيـة مؤمنـة، بهدف إنتاج الأمل من جديد بدلاً من الخوف العام"، ولعله ليس الوحيد الذي تنبأ بخطورة فقدان الأمل لدى الأجيال اليهودية الطالعة، التي بات أكثرها يهتم بمصالحه ومستقبله، ويعيش همومه اليومية الذاتية، ويفكر في متعلقاته الشخصية، ويعيش لعشيقته ويفكر في متعته، ويبحث عن المسليات ووسائل الترفيه وسُبُل الراحة، ويقضي على (النت) ساعاتٍ طويلةٍ يكسب صداقاتٍ ويتبادل الأفكار والآراء.
فقد انتبه غيره من رواد المشروع الصهيوني إلى خطورة ما يواجهه مشروعهم، فانصب جهد المفكرين والمسئولين، والاستراتيجيين والمخططين، خلال ندواتٍ كثيرة ومؤتمراتٍ جامعة، داخل فلسطين المحتلة وخارجها، شارك فيها إلى جانب المفكرين طلابٌ وطالباتٌ، ويهودٌ مقيمون وآخرون زائرون، على ضرورة بذل المزيد من الجهود لاسـتنهاض الأمل من جديد، والعمل على بعثـه مرةً أخرى، لكن ليـس من بوابـة الأمن، والخوف على مسـتقبل اليهود من مصيرٍ مجهولٍ أو "محرقةٍ" أخرى، أو طردٍ أشـمل، بل من جوانب أخرى، لعل أهمها هو الجانب الديني العقائدي، الذي يبقى ولا يندثر، ويعيـش ولا ينتهي، وإن كان يضعف ويتراجع في بعض الأحيان.
ترى هل سيتمكن الإسرائيليون من تحصين كيانهم من جديد، وإقناع أجيالهم مرةً أخرى أن فلسطين هي "الأرض الموعودة"، وأنها "مملكة" بني (إسرائيل)، وأنها الأرض التي أقطعها الرب لأنبيائهم وملوكهم السابقين، وأنه ينبغي العمل على إبقائها، والحفاظ على وجودها، أم أن الأمل فعلاً قد ضعف، والعقيدة قد تراجعت، والإيمان قد خبا، وأن المصالح قد تقدمت، والهموم الشخصية قد طغت وهيمنت، في الوقت الذي تعاظمت فيه العقيدة لدى الفلسطينيين، وتعمق الأمل في نفوسهم أكثر، وهم أصحاب الحق وملاك الأرض، وأن أجيالهم الجديدة أشد تمسكاً وأعظم إيماناً بحقها من السابقين والراحلين؟؟
واقرأ أيضا:
النصر الإسرائيلي في الحرب على قطاع غزة!/ الموقف التركي من العدوان على غزة/ إعمار غزة ومحاولات إسرائيل الاستئثار بأموال المانحين/ عفواً.. اعترافكم مرفوض!/ إسرائيل تسوّق إنسانيتها!