من الواضح أنه في السنوات الأخيرة ومع إتاحة شبكة الإنترنت وانطلاق العديد من المواقع التي تقدم خدمة الاستشارات النفسية وجد كثيرون ممن لا يستطيعون البوح في الواقع مخرجا للبوح على شبكة الإنترنت، ونستطيع أن نؤكد بناء على الخبرة أن أعداد من باحوا على الإنترنت في بلادنا العربية أكبر بكثير ممن تجرؤوا وباحوا بين يدي طبيب نفساني أو طبيب ذكورة أو طبيب نساء، ولعل الموقع الذي قمت بتأسيسه وما أزال أشرف عليه على شبكة الإنترنت هو صاحب الفضل في تنبيهي لمشكلة وسواس الشذوذ الجنسي أو لوجود علاقة غير مدروسة بين الوسواس القهري OCD والشذوذ الجنسي Homosexuality، فمنذ بدايات موقع مجانين أواخر سنة 2003 ونحن نستقبل استشاراتٍ صنفت:
نطاق الوسواس OCDSD وسواس قهري؟ شذوذ؟
وأخرى صنفت: نطاق الوسواس OCDSD: ميول شاذة Homosexual Love
وأخرى صنفت: نطاق الوسواس OCDSDs قلق المثليةHomosexual Anxiety
من بين هؤلاء المستشيرين من كان لهم الفضل بعد الله في وضع عيوننا على مشكلة فريدة بحق انتقل تفكيرنا فيها من مرحلة التفكير في وجود علاقة ما بين الشذوذ الجنسي كمرض والوسواس القهري كمرض إلى مرحلة القناعة بالدور الفاعل للوسواس القهري في كثيرين من المشتكين من المثلية، وكنا بحثنا كثيرا وتساءلنا عن دراساتٍ تبين وجود ومعنى هذا التواكب المرضي بين المثلية والوسواس القهري.... وبالطبع لم نجد -اللهم إلا في مقالة لعالمة نفس أمريكية هي Monica Williams عرضت فيها ما قابلته من حالات وسواس قهري تأخذ شكل الخوف من الشذوذ (Williams, 2008) - لأن الشذوذ الجنسي لم يعد يدرس كمرض في الطب النفسي الرسمي الحديث وأزيل من التصنيف الأمريكي الثاني DSM-II الصادر سنة 1973 ومن التصنيف العالمي للأمراض الطبنفسية أيضًا منذ أربعة عقود،..... وأصبحت لا ترى الحديث عن الشذوذ الجنسي بوصفه مرضا أو عاهة قابلة للعلاج أو على الأقل محاولات العلاج إلا في طبعات كتب الطب النفساني القديمة وكان يسمى في تصنيفات الأمراض النفسية آنذاك : اضطراب الانحراف الجنسي Sexual Deviation Disorder ، أما كتب الطب النفسي السائد الحديثة فلا تجد حديثا فيها عن الشذوذ الجنسي إلا تحت عناوين مثل مشكلات الشواذ أي المشكلات التي يواجهونها في علاقاتهم بالآخرين سواء مع أمثالهم من الشواذ أو غيرهم في مجتمع ما زال يرفض إعطاءهم حقوقهم.. في حين أن الطب النفسي السائد Main Stream Psychiatry يعطيهم حق الاعتراف بهم كمجرد نوع مختلف من الناس!
وكان بعد ذلك أن تواصل ورود استشارات نفسية إلى موقع مجانين.كوم من شواذ مثليين غالبا من الرافضين بشدة لشذوذهم (لأنه غير متماش مع الأنا بالنسبة لهم Ego Dystonic Homosexuality ) وفي نفس الوقت لديهم أعراض وسواس قهري، واستشارات من خائفين من أن يكونوا شاذين مثليين ويشتكون في نفس الوقت من أعراض وسواس قهري، وفكرنا لبعض الوقت في محاولة دراسة التواكب المرضي بين الشذوذ الجنسي والوسواس القهري ولو على الإنترنت ثم أرجأنا، لعدم وجود أدبيات في الموضوع.
كذلك تواكب ما سبق مع مرضى حقيقيين يذكرون مثلا أن الرعب ينتابهم حين يشعرون شعورا جنسيا في المؤخرة (في حالة الذكور) أو استثارة جنسية زائدة بوجه عام في أي من الجنسين، وأن ذلك كثيرا ما يحدث في حضور أفراد من نفس الجنس، وكثيرون هم من يدخلون على الطبيب النفساني بشكوى "أنا شاذ جنسيا أميل إلى نفس جنسي يا دكتور"، وعند السؤال عن ممارسة الشذوذ دائما يجيبون بالنفي القاطع، لكنهم يبقون معذبين بشتى أنواع المشاعر والأفكار والمواقف التي تثبت لهم أنهم شواذ في ميلهم الجنسي، فمنهم من يسقط في دوامة من التفكير والحيرة في توجهه الجنسي ومنهم من يرعبه أن قد يشعر بالاستثارة الجنسية في وجود أشخاص معينين من نفس جنسه، ومنهم من يزيد خطوة ليكتشف أنه أيضًا لا يثار بأفراد الجنس المغاير ومنهم من يصل حالهم إلى وجود مشاعر جسدية تسلطية Obsessional Bodily Feelings فمثلا يشعر الواحد بقشعريرة في الدبر أو بشعور خلفي ما في المؤخرة عند وجوده مع أو رؤيته لأحد الذكور، فيصبح ذلك دليلا لا يقبل الجدل في رأيه على انحراف ميله الجنسي!، وفي إطار بحثنا عن الظواهر الحسية لدى مرضى الطيف الوسواسي لم تكن المشاعر الجسدية التسلطية بالنسبة لنا إلا عرضا من أعراض الوسواس القهري.
وصلنا عبر ما سبق إلى فهم ربما يشكل رؤية كاملة لنوعين من الحالات يشتكي أصحابها من الميول الجنسية المثلية أو الشذوذ الجنسي سائلين إثباتها أو نفيها أو راغبين في التخلص منها:
1- حالات الوسواس القهري الذي يتخذ من الشذوذ الجنسي محورا للوساوس والقهورات أو وسواس المثلية ونسمي صاحبها : " الخائف أن يكون شاذا Afraid of being homosexual "، وقد فصلنا في عرض الشكل الإكلينيكي لهذه الحالة في مقالة : الشذوذ الجنسي والوسواس القهري: وسواس المثلية، كما عرضنا الخطوط العريضة لطريقة علاجها في مقالة: علاج وسواس المثلية، وهي المقالة التي منذ ظهرت في 2009 على موقع مجانين ونحن نستقبل 2-4 مرضى أسبوعيا يشتكون من هذه المشكلة إضافة إلى الاستشارات التي تظهر على الموقع تباعا.
2- بعض حالات الشذوذ الجنسي غير المنسجم مع الأنا Ego-Dystonic Homosexuality والتي نسمي صاحبها: "الآسف أن يكون شاذا Sad for Being Homosexual" واعتبرنا هذه الحالات أو على الأقل بعضها شكلا وسواسيا أكثر تطورا من وسواس الخوف من الشذوذ الجنسي، فهنا يكون المريض أكثر تصديقا وأقل شكا في كونه مثليا... وتكون الظواهر الحسية أيضا من النوع الذي ينهزم له المريض بسرعة لأنها تكون قوية التأثير فيه، فضلا عن وجود تاريخ فعلي في أغلب الحالات لممارسة مثلية واقعية Real أو سيبرجنسية CyperSexual أو متخيلة Imaginary ... ويمكن تخيل الحالات على متصل من الشدة Continuum of Severity ربما يعتمد تموضع الحالات عليه حسب كم ونوعية الخبرات الجنسية المثلية، أو بالأحرى حسب شدة تأثيرها في الحالة المعينة.
وعادة ما يظهر أثناء الجلسات المعرفية السلوكية مع هؤلاء المرضى وجود تداخل في الأعراض بين هذين النوعين من الحالات أي الخائف والحزين أو الآسف رغم اختلافهما، وكان النشاط الوسواسي للحالات يتأرجح على خلفيتين انفعاليتين هما الخوف والقلق من جهة والضيق والاكتئاب من جهة، وهو ما جعلنا نفضل تصور هذه الحالات كما يلي :
على متصل معرفي شعوري سلوكي يمتد من الحالة النقية للخائف أن يكون مثليا في جهة إلى الحالة النقية للحزين أو الآسف أن يكون مثليا في الجهة الأخرى... وواقعيا تتوزع أغلب حالات الشاكين من الميول الجنسية المثلية أو الشذوذ الجنسي سائلين إثباتها أو نفيها أو راغبين في التخلص منها على هذا المتصل أقرب لجهة أو للأخرى وربما تتوسط بينهما، إلا أن هناك بما لا يدع مجالا للشك حالات تبدأ بمرحلة الخوف من والشك في أن يكون الشخص شاذا وتنتهي بقناعته بذلك أي اقترابه أكثر من طرف الحزين أو الآسف أن يكون شاذا.
وقبل أن نفرد فصلا نشرح فيه ما يتيسر من تفاصيل العلاج المعرفي السلوكي لحالات المشتكين من الشذوذ الجنسي وهو العلاج الذي يطعن ويشكك في صلاحيته كل من اتحاد الأطباء النفسانيين الأمريكيين American Psychiatric Association والاتحاد العالمي للطب النفسي World Psychiatric Association من المهم التنبيه قبل ذلك إلى عددٍ من النقاط:
1- التوجه الجنسي هو مفهوم بشري فريد، ورغم ذلك هناك ثقافات بشرية لا توجد في لغتها كلمة تصف الجنس المثلي، كذلك فرغم وجود سلوكيات جنسية مثلية في المخلوقات الأخرى كالحيوانات، إلا أن سلوك الشذوذ الجنسي الحصري Exclusive Homosexuality ليس موجودا في أنواع المخلوقات الأخرى وإنما فقط في الإنسان، ولو أن تحديد التوجه الجنسي ناتج فقط من العوامل البيولوجية فإن من غير المنطقي أن لا يكون للشذوذ الجنسي الحصري نظير في الأنواع الأخرى، وحقيقة لا توجد إلا أدلة ضئيلة جدا في الأنواع الأخرى على وجود توجه جنسي فطري بشكل واضح وليس ناتجا عن التعلم (Bancroft, 1989).
2- هناك من الزبائن في عيادة الطبيب النفساني من نسميه الراضي بكونه مثليا Satisfied With Being Homosexual وهذا النوع لا يطرق باب الطبيب لتغيير توجهه الجنسي وإنما لأي أسباب أخرى كالاكتئاب أو أي من اضطرابات القلق أو الاضطرابات النفسية الأخرى لا سيما اضطرابات الشخصية أو المشكلات في العلاقات مع الآخرين، وعلى الطبيب النفساني هنا ألا يحيد عن المشكلة البؤرية في حياة ذلك العميل أي أن يعالجه أو يساعده في حل مشكلاته بغض النظر عن توجهه الجنسي.
3- هناك من بين حالات الحزين أو الآسف لكونه مثليا Sad for Being Homosexual خاصة في المجتمعات التي ترفض المثليين من لا يجيء أسفه أو حزنه لأسباب داخلية أو رفض شخصي للتوجه الجنسي المثلي وإنما بسبب رفض المجتمع له وعلى الطبيب استيضاح تلك النقطة جيدا لأن مثل هذا العميل لن يكون متعاونا بالقدر اللازم للعلاج المعرفي السلوكي ولعل الأنسب في هذه الحالة أن يبحث عن مجتمع يقبل المثليين.
4- هناك أيضًا في مجتمعاتنا من بين حالات الحزين أو الآسف لكونه مثليا من يكونون في الحقيقة مصابين باضطراب الهوية الجندرية (أو الجنسية) Gender Identity Disorder أو ما نفضل تسميته بخلل التناغم الروح/جسدي وكثيرون من هؤلاء يحضرون إلى الطبيب النفساني راغبين في إيجاد حل لمعاناتهم ويجب عدم الخلط بينهم وبين المقصودين بهذا المقال.
5- ظهر جليا في مجتمعاتنا تأثير الإنترنت في حياة الشاكين أو الآسفين لمثليتهم وذلك من خلال إتاحة المواد الجنسية والأفلام الإباحية عن المثلية وإتاحة فرص أكبر وأأمن للتعارف والتواصل والاشتراك في مجموعات، بل وحديثا ممارسة الجنس المثلي السيبري على النت Cyper Homosexuality ، وقد وثقنا حالات متعددة كان دخول الإنترنت إلى حياتهم سببا واضحا أوقعهم في فخ الشك والخوف من المثلية ثم في فخ التجريب بشكل وبآخر للاستثارة المثلية وصولا إلى حالة الأسف والحزن بسبب اكتشاف أنها ممكنة وهو ما يعني للشخص أنه مثلي التوجه، ورغم أننا وضعنا الممارسات المثلية السيبرية في الشكل أعلاه، وكأنها تقع بين الممارسة الواقعية والتخيلية إلا أنها -لأسباب نظنها ما تزال تحتاج بحثا- بدت في كثير من المرات أقوى أثرا وأصعب مناجزة في أثناء العملية العلاجية.
6- كثيرا ما يسمع المعالج النفسي الذي يعمل مع مثليين جنسيا في مجتمعنا كلمات مثل حرام أو عيب وذلك عندما يوجه المعالج العميل لمحاولة إقامة علاقة عادية أو حتى تخيلية أو حتى مجرد النظر في الشارع لأي من أفراد الجنس المغاير -وهو ما يبدو مثيرا بحق للسخرية في ضوء تخيلات العميل أو ممارساته المثلية- وإن كان هذا في الحقيقة يجيء نتيجة متوقعة للحماس الهوسي أو الهوس الحماسي الذي تصاب معظم الرموز الدينية عند مناقشة الأمور الجنسية ويتبعهم في ذلك الآباء والمربون، مع حظر صارم للنظر إلى أفراد الجنس المغاير، ناهيك عن إقامة علاقات طبيعية إنسانية معهم، وفي الوقت نفسه عادة ما يتم تجاهل أي إشارة إلى الحدود الصحيحة في التعامل بين الأفراد من نفس الجنس، ويعتبر توضيح هذا الأمر مهما جدا في العملية العلاجية.
7- العديد من حالات الشذوذ الجنسي في الدول العربية تنشأ وتتطور نتيجة لعدم وجود فرص آمنة ومحترمة حقا لوجود واستيعاب علاقات إنسانية عادية بين الجنسين خلال التطور الجنسي للأطفال وحتى بلوغ الرشد، وأنا لا أقارن حالنا هنا مع المجتمع الغربي ولكن حتى المجتمع الإسلامي في وقت مبكر في وقت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان المجتمع ليبراليا جدا ومنفتحا جدا بشأن هذه النقطة بالمقارنة مع ما تلاه من المجتمعات الإسلامية اللاحقة، ورغم بعض التفتح الحادث في بعض الدول الإسلامية إلا أن ذلك لا ينطبق على المحافظين أو الملتزمين دينيا من الناس فعادة ما توصم حرية العلاقات بين الأولاد والبنات بأنها باب فساد لا يقربه المتدينون دون -على الأقل- نية زواج، وربما بعض مجتمعاتنا في سبيلها إلى التحسن مع تفتح أفهام بعض فئات المتدينين وإن كان ذلك أبطأ كثيرا من سرعة محاولات فرض الانحلال على المجتمعات البشرية كافة مع الأسف.
المراجع:
1- MaGaNiN.CoM (2003-2014) : consultations and articles linked within the text above.
2- Williams M. (2008): Homosexuality Anxiety: A Misunderstood Form of OCD. In: Leading-Edge Health Education Issues. Editor: Lennard V. Sebeki, pp. 195-205
3- Bancroft, J. (1989): Human sexuality and its problems (2nd edn). Edinburgh: Churchill Livingstone.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>: المثلية أو الشذوذ الجنسي علاج الآسف للشذوذ: ع.م.س1
واقرأ أيضاً:
الخائف أن يكون شاذا / الخروج من سجن المثلية / علاج الشذوذ: لا مبرر للزنا!: قصة نجاح / تحول التوجه الجنسي